بوشرت، أمس، أعمال هدم حديقة المفتي الشهيد حسن خالد في تلّة الخياط في بيروت، تمهيداً لتنفيذ مشروع إنشاء مرأب للسيارات تحتها، ومن ثمّ «إعادة تأهيلها». على مقربةٍ من آليات الجرف، «نصَب» رجُلان مُسنّان من سكّان المنطقة كرسيّيهما وباشرا بلعب طاولة الزهر. «إلى أن تُقفل نهائياً الحديقة، سنبقى نلعب كل يوم هنا»، قال أحدهما ضاحكاً، في إشارة إلى تمسّكهما بالمكان، فيما اكتفى الآخر بالإشارة إلى خوفه الكبير من «عدم تنفيذ بلدية بيروت لوعودها المتمثلة في إعادة الحديقة أجمل ممّا كانت».
لم يُبدِ معظم من وُجِد هناك غضباً واضحاً من المشروع الذي سيُدفن في رحم الحديقة الوحيدة في المنطقة، والتي تمتدّ على مساحة خمسة آلاف متر مرّبع. يُعوّل هؤلاء على «مُستقبل» الحديقة التي «ستُشبه حديقة الصنائع وربما تفوقها جمالا»، على حدّ تعبير أحدهم، بعد أن تحوّلت خلال السنوات الماضية إلى «مزبلة».
ولعلّ ما أسهم في تعزيز هذه «الرؤية» المُرتبطة بالنظر إلى المشروع كـ«خلاص» لتحقيق التأهيل المنشود منذ «زمن»، هو «سلوك» بلدية بيروت الذي أمعن في إهمال الحديقة لسنوات طويلة، تمهيداً لإنشاء هذا «المزاج» لدى كُثر من أهالي المنطقة وساكنيها.
سعد الدين خالد، نجل المفتي الشهيد حسن خالد، قال في اتصال مع «الأخبار» إن رئيس بلدية بيروت جمال عيتاني أطلعه على الخرائط التنفيذية، وإنّ «الحديقة ستعود أفضل ممّا كانت»، لافتاً إلى أن أهالي المنطقة سيبقون يراقبون المشروع، «وفي حال تخلّت البلدية عن وعدها، فلكلّ حادث حديث».
ماذا عن الأشجار المُعمّرة في الحديقة؟ «ستقوم البلدية بإعادة زرعها بعد الانتهاء من المشروع»، يُجيب الموظف المُرسل من قبل البلدية لاقتلاع الأشجار. وهي الإجابة نفسها التي قالها عدد من الموجودين هناك، نقلاً عن «وعد من الريس عيتاني» (رئيس البلدية).
هذا الأمر يتناقض وما يقوله الخبراء لجهة «استحالة زرع الأشجار الضخمة التي كانت موجودة فوق مبنى المرأب، لأن هذا الأمر يحتاج إلى تقنيات حسّاسة»، على حدّ تعبير الخبير في التخطيط الحضري ليفون تلفزيان، لافتاً الى أن مشروعاً كهذا «غير صحّي للمدينة، لكونه يُغيّب المجال الحيوي الذي كانت تتيحه الحديقة».
إلى ذلك، فإنّ المشروع لا يُعدّ «صحّياً» أيضاً، وفق تلفزيان، لأنّه يقضي بإدخال سيارات إلى حديقة عامّة، «إذ يجب أن يكون الوصول الى الحدائق العامة سهلاً ومُيسّراً للمُشاة الراغبين في التوجه سيراً على الأقدام من سكان المنطقة وأهلها».
أمّا الأهم، فإنّ هذا النوع من المشاريع «لا يُعالج مسألة السير في المدينة، لأنه لا يتضمّن رؤية شاملة ترتبط بإنشاء حركة نقل عام مع بيروت الكبرى».
الجدير ذكره في هذا الصدد أنّ رئيس بلدية بيروت كان قد أعلن، في شباط الماضي، عن خطّة المجلس البلدي لحلّ مُشكلة السير في العاصمة، تقضي بإنشاء مبانٍ لمواقف السيارات (من شأنها أن تؤمّن 1850 موقفاً). حينها، أعلن عيتاني أنه من ضمن هذه المباني سيكون مبنى تحت حديقة المفتي خالد وآخر تحت حديقة الرملة البيضاء.
ووفق المعلومات المُستقاة من البلدية آنذاك، فإنّ المشروع المزمع إنشاؤه تحت حديقة المُفتي (العقار 202 المصيطبة) يقضي بإنشاء أربع طبقات تستوعب 440 موقفاً مع 69 موقفاً فوق الأرض، فيما يقضي المشروع المزمع إنشاؤه تحت حديقة الرملة البيضا بتشييد طبقتين للمواقف تستوعبان 176 سيارة.
إهمال البلدية للحديقة لسنوات مهّد لخلق مزاج عام ينظر إلى المشروع كخلاص لتحقيق التأهيل المنشود


وقتها، أثارت هذه الخطة انتقادات تنسجم وما قاله تلفزيان لجهة التأثير على المجال الحيوي وعدم معالجة أزمة السير، إذ أجمع عدد من خبراء التخطيط المدني على خسارة الحديقة لجزء كبير من مساحتها بعد إنشاء موقف تحتها (إنشاء منحدرات ومصاعد وغيرها)، وعدم إمكانية إعادة البيئة نفسها للشجرة في حال أزيلت الحديقة وأعيد زرعها فوق الإسمنت، فضلاً عن زيادة التلوثّ والازدحام. وقد خلص هؤلاء يومها الى اعتبار أنّ خطة البلدية هي بمثابة دعوة للسكان لدخول العاصمة بسياراتهم الخاصة. (راجع «الأخبار»، الإثنين 18 شباط 2019، «بلدية بيروت: دعوا السيّارات تأتي إليّ!»).
يُشار إلى أنّه سبقت هذه الخطة «مشاريعُ مماثلة» كانت تخطط لها بلدية بيروت، كإنشاء مرأبين تحت حديقتي اليسوعية والسيوفي، قبل أن تتراجع البلدية بفعل الاعتراضات الشعبية. فما الذي يجعل بلدية بيروت متمسّكة بهذا النهج الذي يغيب فيه التخطيط المديني الاستراتيجي؟ خصوصاً أنّ تكلفة هذه المشاريع تفوق كلفة مشروع نقل عام متكامل؟
وفيما تردد أنّ كلفة «خطة» المجلس لمواقف السيارات تناهز 30 مليون دولار، تُفيد معلومات «الأخبار» بأنّ بلدية بيروت كانت قد حوّلت في كانون الأول عام 2018 أكثر من 8 ملايين دولار أميركي الى مجلس الإنماء والإعمار الذي قام بتلزيم مشروع مرأب حديقة المفتي خالد. اللافت أن المتعهّد الذي فاز بالمناقصة قدّم سعراً أقل بنسبة 46% من السعر الذي كان قد وضعه الاستشاري. وعلى الرغم من «الريبة» التي أبداها أعضاء المجلس البلدي، إلّا «أنّ عيتاني مضى بالعقد بعد أسبوعين من دون أن يلتفت إلى الاعتراضات»، على حدّ تعبير مصادر في البلدية.