في أيار الماضي، منحت وزارتا البيئة والصناعة، بموجب قرار رسمي حمل الرقم 7060/ت (بتاريخ أيار 2018)، المسالخ غير المرخصة فرصة «أخيرة» مدتها ثلاثة أشهر لتسوية أوضاعها البيئية بما يتوافق مع النظم الصحية والبيئية. فيما منحت المرخّصة، وهي قليلة نسبياً، مهلة سنة «لاتّخاذ التدابير اللازمة لتصحيح وضعها البيئي». في الهدف المعلن، أرادت الوزارتان من خلال تلك المهلة أن تعطيا المسالخ الحقّ «في الحفاظ على استمرارية عملها وفق الأصول». أما فرضهما على المسالخ «احترام الأسس وفقاً لـ7060/ت» فيحقّق الهدف الأهم، والذي يتعلّق بـ«خفض كلفة التدهور البيئي الناجم عن هذا القطاع»، خصوصاً بعدما باتت المسالخ مصدراً للتلوّث في المناطق التي «تقيم» فيها، و«شريكاً» في تلويث الأنهر، خصوصا نهر الليطاني. ففي آخر مسحٍ أجرته المصلحة الوطنية لنهر الليطاني أوائل العام الجاري، تبيّن أن «7 مسالخ كبرى تقع في الحوض الأعلى لنهر الليطاني تساهم في تلويثه من خلال تفريغ مخلفاتها فيه، وقد وصل الأمر في بعض الأحيان إلى حدود الكارثة، بعدما اصطبغت مجاري النهر وروافده باللون الأحمر من دم الذبائح». انتهت مهلة الأشهر الثلاثة، لكن الوضع لم يتغيّر. لم تأت النتيجة كما اشتهت لا «البيئة» ولا «الصناعة». فمن أصل 160 مسلخاً على الأراضي اللبنانية (بين شرعي وغير شرعي)، ثلاثة مسالخ فقط التزمت بالشروط. وقد أبلغت هذه الأخيرة الوزارة بـ«الإجراءات التي اتخذتها لمعالجة المخلفات»، بحسب رئيسة دائرة حماية البيئة السكنية في وزارة البيئة، ألفت حمدان. أما البقية، فمستمرة في «رفد» مجاري الأنهر والمياه الجوفية والهواء بالملوثات، بلا حسيب ولا رقيب. يحدث ذلك، برغم الصرخات المتكررة التي يطلقها «جيران» المسالخ في أكثر من منطقة حيث بات يصعب «التعايش» معها، وآخرها الصرخة التي علت من منطقة الشويفات بسبب الروائح الكريهة التي يتسبب بها وجود 17 مسلخاً، فضلاً عن مجموعة كبيرة من المزارع.
مسالخ جديدة تنال تراخيص من دون الالتزام بأي من المعايير المطلوبة


هذا في الشويفات وحدها، إلا أن المشكلة تمتد على مجمل الأراضي اللبنانية. وبحسب مسحٍ قامت به، مؤخراً، وزارة الزراعة، يسهل الحديث عن فوضى «قطاع» المسالخ ولا شرعية الكثير منها. بحسب المسح، تبيّن أن هناك 60 مسلخاً للمواشي و100 مسلخٍ للدواجن، وأن «ثمة عدداً قليلاً جداً منها مرخص»، فيما البقية قائمة، كما غيرها من المؤسسات التي انفلشت في غياب الرقابة والقانون. وهذا الرقم لا يضم، بطبيعة الحال، «الملاشات» (محال ذبح الدواجن) التي بيّن المسح أنها بحدود 2000، إضافة إلى عدد كبير من الملاحم الصغيرة التي لم يحصها المسح. تؤكد المصادر في وزارة الزراعة أن المسح «لم يشمل كل القطاع»، ما يعني أننا أمام أرقام «ناقصة». مع ذلك، تشي تلك الأرقام بالواقع المأزوم، وتبيّن، على الأقل، «كم» النفايات الضخم الذي تنتجه تلك المسالخ والملّاشات والذي يرمى بطريقة عشوائية. يُشار إلى أن ما تصدره المسالخ من نفايات يمكن تقسيمه إلى قسمين: نفايات صلبة (كروش وأمعاء وفضلات الحيوانات والقرون والجلود والعظام والريش)، وسائلة (دم وماء غسيل الذبائح وماء غسيل الأرضية والدهون...). وبحسب وزارة البيئة، لا تكمن المشكلة في النفايات الصلبة، بل «في النفايات السائلة، فنحن نتحدث هنا عن كمية مرتفعة من النفايات العضوية التي تسبب ضرراً كبيراً على البيئة وعلى صحة الإنسان».

القرار 7060/ت
في تفاصيل القرار7060/ت الذي طلبت وزارتا البيئة والصناعة التزامه تنص المادة الأولى منه على ضرورة «قيام المسالخ بأخذ عينة من النفايات السائلة الناتجة عنها لتُحدد نوعيتها وحجمها، على أن يُجهّز بعدها المسلخ بمحطة معالجة تلتزم بالمعايير البيئية حتى تنتَج المواد ضمن تراكيز معينة تسمح بتصريفها في ما بعد في شبكات الصرف الصحي أو إلى الماء السطحية أو إلى البحر، إذ أن لكل من هذه المصارف أو القنوات معاييره ومحدداته». وفي وقت تؤكد وزارة البيئة أن عدد من التزموا بالقرار ثلاثة مسالخ، يتحدث رئيس مصلحة التراخيص في وزارة الصناعة المهندس علي شحيمي عن «حوالى 20% من المسالخ باتت جدية لناحية التزام المعايير البيئية»، من دون أن تلتزم إلى الآن. أما في ما يخص فوات المهل المحددة، فلفت شحيمي إلى أن الوزارة «لن تلتزم حرفياً بموضوع الوقت وقد عملت على منح مدة إضافية بسبب الأوضاع الاقتصادية، خصوصاً بعدما لمسنا جدية من قبل أصحاب المنشآت»، مؤكداً، من جهة أخرى، أن «مهل الالتزام البيئي مفتوحة حتى نهاية أيلول لتبدأ بعدها إجراءات الإقفال لأن الموضوع لم يعد محمولاً».
وتندرج المسالخ ضمن المؤسسات الصناعية من الفئة الثانية، وهي المؤسسات الأكثر ضرراً على الصحة العامة والبيئة. وتأخذ رخصة إنشائها على مرحلتين: الإنشاء والاستثمار. في المرحلة الأولى، يجري درس التفاصيل التي تراعي الإنشاء، وتخضع المؤسسة المنوي إنشاؤها لدراسة تقييم أثر بيئي بحسب مرسوم أصول تقييم الأثر البيئي الذي صدر عام 2012. ومن المفترض أن تتضمن الدراسة البيئية تحديد نوع المسلخ (دواجن أو مواش)، ومحيطه (ما إذا كان في منطقة مصنّفة للفئة الثانية). أما إن كان في منطقة غير مصنفة ضمن الفئة المذكورة، فيجب أن يكون بعيداً عن البيوت السكنية نحو 1000 متر. كما تتضمن الدراسة معلومات عن مساحة العقار وبعده عن الأنهر، ويجري توصيف العملية الصناعية وتحديد نوعية النفايات المنتجة وكمياتها ومن ثم الإجراءات التي ستعتمد للمعالجة وفق معايير بيئية.

أحصى مسح «الزراعة» وجود 60 مسلخاً للمواشي و100 للدواجن وحوالى 2000 «ملّاشة»


بعد الالتزام بالشروط، تصدر وثيقة تسمّى خطة إدارة بيئية، وهي خطة لمشروع لم ينشأ بعد، ويصدر على إثرها ترخيص من وزارة الصناعة، ومن بعدها ينال رخصة الاستثمار بعد موافقة الإدارات المعنية على الدراسة. وهنا، يكون على صاحب المسلخ إجراء تحاليل دورية لما ينتج، وإرسال نسخٍ دورية بمضمونها إلى وزارتي الصناعة والبيئة.
هذه هي آلية الترخيص على الورق. أما على أرض الواقع، فالوضع مغاير كلياً، إذ إن «كثيراً من المؤسسات تعمل من دون ترخيص، وبعضها الآخر يعمل وفق تراخيص قديمة سبقت صدور هذه القوانين والآليات وبالتالي تغيب فيها إجراءات معالجة مخالفات المسالخ»، وفق حمدان. أما الطامة الكبرى فهي أن هناك «مؤسسات صناعية جديدة نالت وتنال تراخيصها حتى من دون إجراء هذه الدراسات»! مع ذلك، تشير حمدان الى أن «المعايير الموضوعة صعبة على المؤسسات الصغيرة»، من هنا يبقى الأفضل «إقامة مسلخ مركزي في نطاق كل محافظة أو قضاء، حيث يجب أن تتوفر كمية نفايات ضخمة حتى تكون المعالجة مجدية بيئياً واقتصادياً». لكن، ذلك يتطلب حضور الدولة، إذ من دون إنجاز البنى التحتية اللازمة من شبكات صرف صحي ومحطات تكرير وإنشاء مناطق صناعية «يصعب اختراع أي حل».