التضليل هو تحديداً ما مارسه وزير الاتصالات محمد شقير في مؤتمره الأخير عن صفقة شراء مبنى «تاتش» التي وصفها بإنجازه الأوّل في الوزارة، باعتبار أنها أدّت إلى استملاك المبنى المذكور بقيمة أقل من بدلات استئجاره بنحو 21 مليون دولار... إلّا أن المستندات التي حصلت عليها «الأخبار» تبيّن أن حسابات شقير خاطئة، وأن القيمة الفعلية لشراء المبنى تزيد بنحو 52 مليون دولار على قيمته السوقية الفعلية، وهي بكلّ الحالات أكثر بنحو 30 مليون دولار من الرقم المُعلن رسمياً، إذ وصلت إلى 103 ملايين دولار، ويتوقع أن تنتهي عند 110 ملايين دولار.تنطوي صفقة شراء مبنى «تاتش» المشبوهة (في وسط بيروت) على مرحلتين وسيناريوهين: المرحلة الأولى تتمثّل بالسيناريو الأساسي الذي، بناءً عليه، أعدّت الصفقة بين رئيس مجلس إدارة شركة «ميك 2» (المشهورة باسم «تاتش»، والمملوكة من الدولة اللبنانية، والمالكة لواحدة من شبكتي الهاتف الخلوي - تديرها شركة «زين») بدر الخرافي ووزير الاتصالات السابق جمال الجرّاح (ومَن يمثِّل)، لاستئجار مبنى «تاتش» الجديد من نبيل كرم صاحب شركة SEG، الذي تربطه علاقة عمل بـ«مجموعة الخرافي» في الكويت، وفق ما يظهر على موقع الشركة الإلكتروني. أمّا المرحلة الثانية، فتتمثّل بالسيناريو المعدّل الذي نتج من انكشاف الصفقة، وتدخّل رئيس الحكومة سعد الحريري عبر وزير الاتصالات محمد شقير لإطاحة السيناريو الأول.
السيناريو الأساسي كان يقضي بتملّك مجموعة من الأفراد، ومنهم حسيّن عيّاش، الغطاء المفترض لبدر الخرافي (راجع «الأخبار»، 8 آب 2019)، البلوكين B وC في العقار 1526/ الباشورة. وفي هذا السياق، جرى الاتفاق مع نبيل كرم، صاحب شركة «سيتي دفلوبمنت» مالكة العقار، على تأجير «ميك 2» البلوكين المذكورين بقيمة 6.4 ملايين دولار سنوياً، على الرغم من أنهما لم يكونا منجزين بالكامل، في مقابل، تحويل «ميك 2» مبلغ 22.6 مليون دولار إلى كرم، بغية إكمال بناء البلوكين. وهو ما سمح لكرم بإكمال المبنى الخاصّ به من المال العام، وبالتالي رفع قيمة الإيجار من 4 ملايين دولار، وفقاً لتقرير التخمين العقاري الوارد في المراسلات بين «ميك 2» ووزير الاتصالات السابق جمال الجرّاح، إلى 6.4 ملايين دولار. ويجدر التذكير بأن «ميك 2» إنما تنفق من المال العام، لأن ما يدفعه مشتركو الهاتف الخلوي للشركتين المشغّلتين («تاتش» و«ألفا») إنما هو مال عام تجبيه الشركتان لحساب خزينة الدولة.
بالتوازي مع المفاوضات القائمة بين «ميك 2» وكرم، أُنشئت شركة AC Realty التي يملكها حسين عيّاش للقيام بتملّك البلوكين B وC من خلال الاستحصال على قرض مالي طويل الأجل من فرنسبنك بقيمة 22 مليوناً و174 ألف دولار أميركي لتمويل عملية الشراء، وفق محاضر الجمعيات العمومية للشركة، في مقابل التنازل لفرنسبنك عن كامل المبالغ الناجمة عن بدلات الإيجار المعقود مع شركة «ميك 2» لدفع أقساط القرض والفوائد المترتبة عنه، مع التأمين على القرض بضمانة العقار 1526/ الباشورة المملوك من شركة «سيتي ديفلوبمنت».
خيار شراء المبنى «رفضه كرم رفضاً قاطعاً» وفق ما جاء في مراسلات «ميك 2» إلى الجرّاح


ما يعني بصورة أوضح، أنّ كرم كان ينوي بيع البلوكين B وC بقيمة 44.8 مليون دولار (22.6 بتمويل مباشر من «ميك 2» لإكمال المبنى، و22.2 مليون دولار بموجب قرض حصلت عليه شركة AC Realty بضمانة عقد الإيجار الموقّع مع «ميك 2» ورهنية العقار)، وهو ما يعدّ صفقة مجزية لكرم، لأنه كان عاجزاً عن بيع البلوكين بالقيمة المذكورة قبل إنجازهما، ويعني أيضاً أن AC Realty تكون قد تملّكت البلوكين B وC في العقار المذكور من دون دفع أي مبلغ من أموالها الخاصّة، باعتبار أن القرض الذي كانت تنوي الاستحصال عليه لدفع القيمة الباقية من البلوكين، ستُسدّد أقساطه من الإيجار الذي ستدفعه «ميك 2».
هذا يعني أيضاً أن «ميك 2» كانت ستدفع نحو 98.6 مليون دولار خلال عشر سنوات من المال العام (يقول شقير إنها 75 مليون دولار)، بدل إكمال بناء المبنى واستئجاره (91.1 مليون دولار)، وبالإضافة إلى صيانته وتشغيله ونقل الداتا سنتر وتأمين المواقف (7.5 ملايين دولار)، علماً أنه كان هناك خيارات بديلة مُتاحة أمامها وأقل كلفة، وفقاً لمصادر إدارية من داخل «تاتش»، ولا سيّما أن وزارة الاتصالات تمتلك عقاراً شاسعاً في منطقة الدكوانة، وهو كافٍ لانتقال كلّ من شركتي «ميك 2» و«ميك 1» وبناء الداتا سنتر والتجهيزات التي يجري التخطيط لها.
والسؤال هنا، بما أن كرم كان ينوي بيع البلوكين B وC بقيمة 44.8 مليون دولار لـAC Realty، من كان سيستفيد من قيمة بدلات الإيجار الباقية من السنوات الأخرى، التي تصل إلى 46.1 مليون دولار حتى السنة العاشرة من العقد؟

السيناريو المعدّل
أدى انكشاف هذه العملية برمّتها إلى التعديل الحاصل في الصفقة، أي شراء «ميك 2» للمبنى بدلاً من استئجاره، وهو خيار كان قد «رفضه كرم رفضاً قاطعاً» وفق ما جاء في مراسلات «ميك 2» إلى الوزير الجرّاح خلال المفاوضات مع كرم. فأعيد خلط الأوراق، وتوجّه وزير الاتصالات محمد شقير بتكليف من الرئيس الحريري إلى استملاك المبنى المذكور بدلاً من إلغاء الصفقة ومحاسبة المتورّطين فيها، علماً أنها تمّت بقيمة تتجاوز ضعفي القيمة الفعلية للبلوكين في السوق راهناً.
وفق تصريحات شقير في مؤتمره الصحافي، الأسبوع الماضي، بلغت قيمة شراء المبنى نحو 73 مليون دولار، لكن فعلياً ما دفعته «ميك 2» لتملّك المبنى يصل إلى 103 ملايين دولار من المال العام، أي أكثر من ضعفي القيمة الفعلية للمبنى، التي تقدّر بنحو 51 مليون دولار وفقاً لأسعار السوق، وفي جميع الحالات أكثر بنحو 30 مليون دولار من الرقم الذي أعلنه شقير. يُضاف إلى ما تقدّم تكبّد «ميك 2» نحو 7.5 مليون دولار بدل مواقف إضافية لموظّفيها وصيانة المبنى وتشغيله ونقل الداتا سنتر.
وينقسم ثمن شراء المبلغ كالآتي: 22.6 مليون دولار دفعت نقداً لاستكمال تشييد المبنى، 6.4 مليون دولار بدل إيجار السنة الأولى، و68.6 مليون دولار ثمن بيع المبنى وفق عقد البيع، بالإضافة إلى 5.1 ملايين دولار قيمة الفوائد المترتبة عن تقسيط المبلغ على ثلاث سنوات، ونحو 234 ألف دولار لفضّ عقد الإيجار وإبرام عقد بيع.
وهو ما يعني أن كرم حصّل 96.3 مليون دولار (22.6 مليون دولار لإنهاء المبنى، و68.6 مليون دولار لبيعه، و5.1 ملايين دولار فوائد التقسيط)، فضلاً عن مبلغ 6.4 ملايين دولار كإيجار العام الأول الذي لم تُعرَف بعد الجهة الحقيقية التي تقاضته. وهذا المبلغ (الذي لم يكن ليحصل عليه لولا تقاضيه 22.6 مليون دولار من المال العام لإكمال المبنى) أكثر بنحو 51.5 مليون دولار من قيمة بيع البلوكين لـ AC Realty بنحو 44.8 مليون دولار وفق السيناريو الأساسي، وأيضاً أكثر بنحو 45.3 مليون دولار من القيمة الفعلية للبلوكين في السوق راهناً، البالغة 51 مليون دولار. فهل هو المستفيد الفعلي من هذه الأموال، أم ثمّة مستفيدون آخرون؟