الدخول إلى المبنى الأثري الملاصق لحسينية «السيدة الزهراء» في زقاق البلاط ليس سهلاً. من الخارج، لا شيء يشي بوجود حياة، سوى الطلاء الجديد الذي صبغ به حائط المبنى لجهة الشارع، والإضاءة الخافتة التي قد يستغرب العابرون وجودها في بناءٍ شبه مهجور. بخفة شديدة، «يحرّر» شاب من المنطقة عقدة قفل البوابة الصدئة. ندخل المبنى الذي استحال «خِربة»، وتكدست فوق أرضيّته النفايات. هنا باحة «المدرسة الوطنية» التي أسّسها المعلّم بطرس البستاني (1819 - 1883) قبل أكثر من 150 عاماً.يومها، كانت بيروت تشكل مركزاً لنهضة ثقافية في عهد المتصرفية. كان عهداً «قوياً»، اشتهر بـ«اليقظة الفكرية والأدبية»، وفق توصيف المؤرخ اللبناني كمال الصّليبي، نتيجة نشاط الإرساليات الأوروبية والأميركية، بمعزل عن تقييم دور هذه الارساليات وأهدافها. نترك هذه الأفكار جانباً، ونتقفّى أثر «المعلّم»، صاعدين الأدراج باتجاه المدخل الرئيسي الذي بقي مشرعاً بلا باب. تختفي الأنوار تباعاً، لتضفي الظلمة على المكان رهبة من عبر لتوّه عقوداً طويلة نحو الماضي.


إلى اليمين ممر طويل، تؤدي مخارجه الثلاثة نحو ما يفترض أنها صفوف مدرسية. تفيض في زواياها حطام أخشاب ومخلفات «أسرٍ سكنت المبنى لوقت طويل»، يقول الشاب، الذي تبين أن عائلته تسكن في المبنى المتاخم. إلى يسار المدخل الرئيسي، ثمة غسالة بحوض مزدوج هجرها أصحابها منذ حين. «استكشاف» ما تبقى من الصرح يعني السير فوق حطام آيل إلى السقوط في أية لحظة، ما اضطرنا الى العدول عما اعتبره الشاب «مخاطرة»، قبل أن يعيد القفل إلى مكانه بالخفة نفسها. ويخبرنا بأن المبنى قلّما يدخله أحد، «ما خلا القائمين على حسينية الزهراء الذين يستخدمون باحته الخلفية لطبخ الهريسة في ذكرى عاشوراء».
الشارع اسمه «شارع بطرس البستاني». لكن أبناء منطقة زقاق البلاط يعرفونه تبعاً لحساباتهم الديموغرافية الجديدة: شارع الحسينية. «مين يعني بطرس البستاني؟»، يتساءل رجل خمسيني أحالنا إليه جيرانه لمعرفة «الكبيرة والصغيرة »في الأحياء القريبة والبعيدة. بلكنة محببة يسرد لنا التاريخ كما يراه: «هون كان في اسطبل وأحصنة إيام العثمانيين وكان في مصاري وعِلم عمّي». الرجل يتحدث عن «مدرسة علي برو» التي «خرّجت أجيال وأجيال وأطباء ومهندسين. شو بدي قلّك. شي بيرفع الراس». الاسم الأخير أقرب إلى ذاكرته. نفهم أن المدرسة التي يتحدث عنها أسّسها مقرّب من جهة حزبية نافذة، خلال الحرب الأهلية اللبنانية، بعدما «احتل المبنى لسنوات طويلة»، وليس عن «المدرسة الوطنية»، ومؤسسها الذي كان أول من نادى بالفكرة القومية واليقظة العربية في عهد المتصرفية، متحدياً العصبية الدينية والطائفية التي كانت سائدة آنذاك.
أقفلت «مدرسة علي برو» وبقي المبنى مهملاً لفترة طويلة، قبل أن تنمو بين جدرانه قصص مهجّرين سكنوه بُعيد الحرب. أبناء الحي يقولون إن «العائلات الست التي التجأت إليه غادرته منذ مدة ليست ببعيدة»، بعدما تبلغوا قراراً بالإخلاء واستحصلوا على مبالغ مادية، وأن عائلة واحدة بقيت صامدة فيه، آملةً في أن «تنصفهم الدولة بتعويض عادل».

من يحمي المبنى؟
في الأول من أيار الماضي، أقامت جمعية «المعلم بطرس البستاني» في «سي سايد أرينا» احتفالاً رسمياً في الذكرى المئوية الثانية لميلاده، حضره رئيس الجمهورية ورئيسا مجلس النواب والوزراء وحشد من الشخصيات. خلال الحفل، مرّ اسم «المدرسة الوطنية» سريعاً على لسان وزير التربية والتعليم، أكرم شهيب، الذي لم يتبادر إلى ذهنه، ربّما، أن المدرسة أضحت خربة آيلة إلى السقوط، وأن العمارة الأثرية التي يعود بناؤها إلى أواسط القرن التاسع عشر يتربّص بها مصير مأساوي ما لم تتخذ وزارة الثقافة إجراءات سريعة وفاعلة لترميمها وحمايتها. إذ بحسب معلومات «الأخبار»، فإن مالك العقار استحصل من بلدية بيروت، منذ سنوات، على ترخيص يجيز له هدمه لبناء عمارة حديثة.

المدرسة الوطنية في أواخر القرن التاسع عشر (عن صفحة «تراث بيروت»)

مصدر في وزارة الثقافة نفى أن يكون الترخيص قد أعطي في الأساس، على اعتبار أن «مرجعية الترخيص تعود أولاً للمديرية العامة للآثار في الوزارة التي يُستحال أن تجيز الهدم قبل الكشف على العقار»، والنظر في ما إذا كان يشكّل «أهمية على الصعيد التاريخي والتراثي والأثري» تمهيداً لحمايته. وهي حماية تفترض أن تُدرج الدولة مبنى المدرسة على «لائحة الجرد العام للأبنية التاريخية» كإجراءٍ أولي يقيه من «هفوة» المالك، على أن يصار إلى تعويض الأخير مادياً، تبعاً لما تنص عليه مفاعيل قانون الآثار القديم (166/1933) المعمول به حالياً.
اللافت أن ما ذكره المصدر يتضارب مع مصدر آخر في الوزارة، أبلغ «الأخبار» إن المبنى «كان مدرجاً على لائحة الجرد العام»، ولكن في الفئة (C)، التي تعدّ الأضعف من ضمن التصنيفات الثلاثة (A, B, C) التي تعتمدها مديرية الآثار. التضارب في المعلومات خلق نوعاً من الالتباس لناحية الجهة الموكلة بالتحكم بمصير المدرسة وبآليات ترميمها.
أهالي المنطقة لا يعرفون إلا «مدرسة علي برو» التي «خرّجت أطباء ومهندسين»!

لكنه لا يلغي بالضرورة التساؤلات التي أثارها ناشطون ومهندسون معماريون، فضلاً عن أهل المنطقة، لناحية الإهمال الطويل الذي نخر جدران المدرسة العلمانية الأولى من نوعها في المشرق العربي، والتي جابهت لدى تأسيسها في عام 1863 «سطوة» الإرساليات التعليمية في زقاق البلاط التي كانت «محطة على طريق النهضة العربية»، بحسب المعماري عبد الحليم جبر. الأخير يشدّد على «الأهمية التاريخية والفكرية الكبرى» لزقاق البلاط التي تعدّ «جزءاً أساسياً مكوّناً للجمهورية اللبنانية وليس فقط لبيروت». جبر أبدى تحسراً على مصير «المدرسة الوطنية» التي أقفلت أبوابها عام 1877 بسبب «ضخ الأموال والتمويل» نتيجة التوجّه الطائفي الذي سرعان ما طغى، حينذاك، على التعليم العلماني وتغلّب عليه في النهاية.



آل قاروط «صامدون»
أبناء الحي لا يعرفون ملامح مالك العقار الذي يتردد أنه من «آل الفرّا». لكن أغلبهم واكب عمليات إخلاء المدرسة من العائلات الست التي سكنتها بعدما «دُفع لكل منها 5 آلاف دولار»، ما خلا «عائلة واحدة من آل قاروط قبضت المبلغ نفسه»، لكنها قررت أن تصمد في المبنى، رغم وضعه المأساوي هندسياً، في انتظار أن يُطلب منها الرحيل.


المعلم والمفكر والبحاثة
كان بطرس البستاني تلميذ المدرسة المارونية في عين ورقة. وهي مدرسة شهيرة خرّجت آل الشدياق، أصحاب الدور المعروف في النهضة. وصل إلى بيروت عام 1840، حيث عمل مع المبشرين الأميركيين، وسرعان ما تحول إلى البروتستانتية. وحسب المؤرخ ألبير حوراني، صار البستاني تلميذاً للمبشرين ومرشداً لهم في اللغة العربية في الوقت ذاته، وكان له دور في تجربتهم متميّزاً بكفاءته التربوية. ولا يمكن إخراج «المدرسة الوطنية» من هذا السياق، إذ عانى المبشرون الأميركيون من افتقادهم لجماعة طائفية مباشرة يرتكزون عليها للوصول إلى السكان، في موازاة حاجة البستاني إلى خبرتهم التربوية. هكذا، يمكن القول إن «المدرسة الوطنية» والكلية الإنجيلية السورية (الجامعة الأميركية في بيروت الآن) نشأتا في سياق «تبشيري» مشترك، لكن البستاني أصرّ على الطابع «العلماني» لمدرسته، في زمانها.