في دورته الـ29 عام 2015، أعرب مجلس حقوق الإنسان في الأمم المتحدة عن القلق من الزيادة السريعة لمؤسسات التعليم الخاص وازدهار ظاهرة التعليم الهادف إلى الربح في معظم الدول النامية. بالتزامن، أبدت المنظمة الدولية للفرنكوفونية ومنظمة الأونيسكو قلقاً، أيضاً، إزاء الخصخصة التي اكتسحت التعليم، وما يترتّب عنها من استغلال تجاري وتحويل التربية إلى سلعة تخضع للممارسات التجارية (بيع وشراء، تسويق، تزوير، إحتكار، استهلاك طبقي، الخ).لبنان هو إحدى الدول التي نال منها التسليع التربوي. صحيح أن الأنظمة السياسية والدينية والاجتماعية وما تحمله من ثقافات وموروثات وإيديولوجيات وقوانين معقدة تفرض نفسها بقوة على النظام التربوي، إلاّ أنّ انتشار هذا التسليع في السنوات الأخيرة يعود إلى أسباب اقتصادية حرفت التعليم عن طبيعته الاجتماعية والتنموية ودوره كخدمة عامة تقدمها الدولة، إلى خدمة خاصة ربحية، خصوصاً مع بروز مفهوم التربية كاستثمار، إضافة إلى استراتيجيات البنك الدولي التي طلبت منذ عام 1980 من البلدان النامية ترشيد موازناتها وخفض خدماتها التعليمية وإيلاء أهمية متزايدة لمشاركة القطاع الخاص في هذا القطاع. كما أن ضعف القيود المفروضة من السلطات الرسمية على التعليم الخاص (المادة 10 من الدستور أتاحت حرية التعليم)، شكّل فرصة لتنامي خصخصة التعليم من جهة، وتقويض رقابة الدولة.
كل هذه العوامل حوّلت النظام التربوي من نظام قيمي إلى نظام تجاري سلعي لتحقيق الارباح السريعة بمنأى عن جودة «السلعة»، وبمعزل عن مشروعية الوسيلة. فيما تنامت أساليب الخداع والتضليل الدعائي واستغلال حاجات الناس المجتمعية.
تجارة المدارس الخاصة لا تقتصر على الخدمة التعليمية التي تؤديها (في العام 2018 - 2019، بلغ عدد التلامذة 565393 تلميذاً في المدرسة الخاصة غير المجانية و140312 تلميذاً في المدرسة الخاصة شبه المجانية). بل اتبعتها بممارسات تجارية، تبدأ بالأقساط والقرطاسية والكتب واللباس والنقل المدرسي، ولا تنتهي بـ«فتح الملف» ورسوم النوادي المدرسية الرياضية والعلمية والرحلات المدرسية والمسرحيات وبرامج التقوية المفروضة أحياناً.
وعلى النمط التجاري، شكّلت الإمتحانات الرسمية رافعة دعائية لمعظم هذه المدارس (نسبة نجاح 100% - تقديرات ممتاز وجيد جداً، الخ). والدعاية التجارية التي تنطلق منها المدارس تحمل بمعظمها عناوين التربية الحديثة المعاصرة (الجودة التعليمية، التعليم للحياة التعلم بالحب، لا شنطة ولا فروض بعد اليوم، مناهج تفاعلية وتكنولوجية، تربية صحية ونفسية). ولا تتورع مدارس عن لصق صفة «العالمية» و«الدولية» و«الأميركية» و«الإنكليزية» و«الفرنسية» بأسمائها كأسلوب دعائي لإضفاء صفة العصرنة. واتخذت بعض المدارس من تميز طلاب في جامعات الخارج فرصة دعائية لنسب هذا التميز الى نفسها، فقط لأن هؤلاء درسوا في صفوفها سنوات قليلة، فيما تخرّج منها في المقابل الآلاف ممن لم يشعر أحد بوجودهم.
الكتاب المدرسي تحوّل إلى سلعة تجارية هو الآخر، إذ بات أكثر من نصف المدارس الخاصة في لبنان يتاجر به سعياً وراء الربح رغم وجود قوانين ترعى الأمر ( البلاغ رقم 1/1/أ.ت تاريخ 12 أيلول 2012 ). بعض الكتب الصادرة عن دور نشر خاصة تباع بـ 6 أو 7 أضعاف سعر الكتاب الرسمي الصادر عن المركز التربوي للبحوث والإنماء، علماً بأنّه لا يزيد في بعض الأحيان جودة إن على مستوى المنتج المادي (ورق وطباعة)، أو على مستوى المحتوى التعليمي، بل يكون أقل جودة أحياناً، ولا يراعي البرامج الدراسية وحصصها. ويصل سعر كتاب مدرسي صادر عن دار نشر خاص لمادة علمية للصف الثالث ثانوي الى 45000 ليرة، فيما لا يتجاوز سعر الكتاب الرسمي للمادة نفسها 6700 ليرة. إدارات المدارس تعقد اتفاقات مع بعض دور النشر مقابل عمولات، وتفرض على التلاميذ نسخات «منقحة» من الكتب، علماً بأنه لا يكون قد تغيّر في الطبعة المنقحة إلا الغلاف وبعض الصفحات الأولى. وبعض إدارات المدارس تطلب من المعلمين الكتابة بالحبر الأحمر على كتب التلميذ لضمان عدم استخدامها من جديد في العام المقبل. أما الكتب المستوردة فلها حصة الأسد من الربح: كتاب أميركي من جزئين لمادة اللغة الإنكليزية لصفوف الحلقتين الأولى والثانية يناهز سعره 100 دولار. العديد من المدارس تفرض اعتماد الكتاب سنوياً بشرط النسخة المعدلة رغم عدم ملاءمته للتلامذة، إما بسبب صعوبة اللغة التي كتب بها، أو لعدم ملاءمته لظروف المجتمع اللبناني وقيمه. والملفت أن الجزء الثاني من الكتاب لا يستخدم في كثير الأحيان.
باتت الإمتحانات الرسمية تشكّل رافعة دعائية وترويجية لمعظم المدارس


ومن المظاهر التسليعية، انتشار ظاهرة الكتب المساعدة أو Guides، بحجة محاكاتها لنمطية أسئلة الأمتحانات الرسمية وطرق الإجابة عليها، خصوصاً أن عدداً من أعضاء لجان الامتحانات هم من مؤلفي ومعدّي هذه الكتب، ما يُضفي عليها «صدقية» أكبر بنظر التلامذة، ويدفعهم إلى شرائها. يصل سعر بعض هذه الكتب إلى 50 ألف ليرة في الصف الثالث ثانوي. وهذه الكتب تنتشر من دون أن تخضع لرقابة لجان علمية للتأكد من صدقية محتواها ومراعاتها للشروط التربوية. فيما نصف محتواها قد يتضمن معظم ما جاء من أسئلة في الامتحانات الرسمية، مع فارق أنها تأخذ شكلاً فنياً أفضل، علماً بأنّ الأسئلة وحلولها مع نماذج إضافية متوافرة مجاناً على موقع المركز التربوي.
التسليع التربوي لا يؤدي إلى تراجع الإستثمار في التعليم الرسمي فحسب، بل ينتهك الكثير من المعايير الأخلاقية والقانونية التي يقوم عليها الحق في التعليم، فهو يسهم في تعزيز التمييز الطبقي، وتقليص تكافؤ الفرص في الحصول على التعليم وتقويض مبدأ العدالة الإجتماعية وجعل التعليم ذا منفعة خاصة لا منفعة مجتمعية أو عامة.
انسحاب الدولة التدريجي من تمويل التعليم الرسمي وخفض موازنته بسبب سياسات التقشف المستجدة، سيزيدان من مظاهر التسليع التربوي وخصخصة التعليم، فيما المطلوب مكافحة هذه الظاهرة بوضع استراتيجية وطنية تبدأ من دعم المدرسة الرسمية ورفدها بالكفاءات، وتعزيز عمل المؤسسات الوطنية لحقوق الإنسان لمراقبة انتظام المؤسسسات التعليمية والانتهاكات التي تحصل فيها، وضبط الممارسات الدعائية للمدارس والجامعات ومراكز التعليم الخاصة ومراقبة أعمالها، ووضع أطر تنظيمية جدية لضبط عملها وفرض ضرائب على الربحية منها. إذ لم يعد مقبولاً استنزاف الناس وحرمانهم من العيش بإكتفاء واقتدار فقط لأنّ جل همهم تعليم ابنائهم في المدارس والجامعات.

* باحث تربوي