توفي أمس المواطن حسّان الضيقة، وأصدر والده المفجوع المحامي توفيق الضيقة بياناً قال فيه إن نجله تعرض للتعذيب اثناء التحقيق معه من قبل أشخاص تابعين لأحد الاجهزة الأمنية المعروفة للبعض بأنها الاكثر تطوراً لناحية التجهيز والتدريب والاحتراف. وقد سارع وزيرا العدل والداخلية الى التأكيد بأن التحقيق جار بإشراف القضاء المختص تمهيداً لاتخاذ موقف سياسي في الحكومة يعبر عن الالتزام باتفاقية مكافحة التعذيب الدولية التي تعهدت الجمهورية اللبنانية خطياً احترامها في 5 تشرين الاول 2000.وكان بعض عناصر الجهاز نفسه (فرع «المعلومات» في المديرية العامة لقوى الامن الداخلي) خضعوا للمحاكمة في قضية تعذيب سابقة (في سجن رومية عام 2015). لكن التركيز على مكافحة التعذيب في جهاز دون غيره يعد إجحافاً وعملاً فئوياً منحازاً لفريق على حساب آخر، كون الجهاز المذكور معروفاً بأنه محسوب على طرف سياسي محدد (تيار المستقبل). ولا بد من التسليم بأن استمرار ممارسات التعذيب في لبنان يشكل اخفاقاً وطنياً شاملاً، لا يتوقف عند جهاز محدد أو فريق محدد، ولا يقتصر على ممارسات رجال الامن بل يذهب الى ابعد من ذلك، أي الى غياب ثقافة العدالة في لبنان، لناحية التشدد في احترام تسلسل الاجراءات القضائية العادلة التي تبدأ بالاشتباه والتحقيق، ولا تنتهي الا بعد صدور الحكم النهائي الذي يثبت البراءة أو يعاقب المذنب بهدف الوصول الى معالجة صائبة للجرم ونتائجه، وبعد تنفيذ العقوبة.
ادخال موضوع ممارسات التعذيب في حلبة الصراعات الفئوية / السياسية / الطائفية في لبنان هو تعطيل للمعالجة وتضييع لحجة حماية حقوق الانسان التي يفترض أن يتمتع بها كل انسان من دون أي تمييز أو تفضيل.
وقبل الدخول في عرض بعض أسباب استمرار ممارسات التعذيب، نذكّر بأن المعاهدة الدولية التي تعهد لبنان احترامها لا تقتصر على التعذيب الجسدي والنفسي، بل تشمل غيره من ضروب المعاملة أو العقوبة القاسية أو اللاإنسانية أو المهينة. وبالتالي، فان الامر يتعلق بتعامل رجال السلطة بشكل عام مع الناس، خصوصاً المشتبه فيهم والمتهمين بارتكاب اعمال مخالفة للقانون. والامر يتمحور كذلك حول قيم سائدة تقدم أسلوب المعاملة القاسية على أسلوب التعامل العلمي والتقني المناسب.
خلال متابعة تفاصيل إجراءات مئات التحقيقات الجنائية التي أشرف عليها القضاء منذ عام 2006، واثناء مقابلة العديد من ضباط ورتباء التحقيق وقضاة النيابات العامة، تبين لنا في «الاخبار» ان موضوع التعذيب لا يتناوله أحد صراحة، لكنه الحاضر الدائم. هو «الفيل في الغرفة». «عالجوه»، أمر بدا لنا من بين أبرز الالغاز المستخدمة للإشارة الى المعاملة القاسية التي تؤلم الموقوف جسدياً أو نفسياً بهدف دفعه الى الاعتراف او الى تقديم معلومات. وفي المقابل، نسجل تكرار عبارة «خرجو» على ألسنة كثير من المواطنين، خصوصاً في حالتين: الاولى عندما تنشر وسائل الاعلام معلومات تدين الموقوف قبل المحاكمة وتركز على فظاعة الجريمة المرتكبة؛ والثانية عندما يصنف الموقوف على انه ينتمي الى فريق او حزب او جنسية أو مجموعة او مذهب محدد، فيما يكون الجهاز الذي يحقق معه محسوباً على فريق مواجه له. ولكن بما ان الأفرقاء السياسيين في لبنان متفقون، الى حد ما، على عدم مواجهة بعضهم بشكل مباشر، يتحول الامر في الحالة الثانية الى الآتي: كل جمهور يدافع عن ممارسات الجهاز المحسوب عليه وينفي او يبرر لجوءه الى التعذيب.
لكن رغم ذلك، فإن مكافحة ممارسات التعذيب وضروب المعاملة أو العقوبة القاسية أو اللاإنسانية أو المهينة لا تبدأ بإصلاح الاجهزة الأمنية والعسكرية، بل تنطلق من تثبيت استقلالية القضاء الكاملة والتشدد في مراقبة عمل النيابات العامة المشرفة على التحقيق والمحاكم من قبل أجهزة التفتيش القضائي التي ينبغي تطويرها وتوسيع ملاكها وصلاحياتها، وبرفع مستوى الكفاءة والاختصاص العلمي للقضاة والمستشارين والمدعين العامين.
فمسؤولية كل ما يجري اثناء التحقيق تعود الى السلطة القضائية المشرفة عليه لا الى مدير المؤسسة الأمنية التي يتبع لها المحققون. ولا يجوز ان يقتصر دور القاضي المشرف على التحقيق على تلقي نتائج استجواب الموقوفين وتفقد مسرح الجريمة ومنح الاستنابات القضائية. ولا يفترض ان يقتصر التواصل بين القاضي المشرف والضابط أو الرتيب المحقق على المكالمات الهاتفية والفاكس. بل على القاضي ان يشرف - عملياً وفعلياً وشخصياً - على كل إجراءات التحقيق، من خلال توجيه الضابطة العدلية والتدقيق في كل خطوة يقوم بها الضباط والرتباء والعناصر. فهل زار أي من القضاة المشرفين على التحقيقات الأمكنة التي يحتجز فيها الموقوفون مؤقتاً للتأكد من ان أوضاعها قانونية وتتناسب مع الشروط بحسب اتفاقية مكافحة التعذيب وغيره من ضروب المعاملة أو العقوبة القاسية أو اللاإنسانية أو المهينة، وبحسب المعايير الدولية الدنيا لمعاملتهم؟ وهل بادر أي منهم الى الانتقال الى مراكز التحقيق لمراقبة كيفية استجواب الموقوفين من دون علم أو اخطار مسبق للمستجوَبين والمستجوِبين؟ أم أن الفيل في الغرفة، ولا حاجة للبحث عنه ولا سبيل سوى استمرار اغفال وجوده؟