4000 شكوى عمل فردية موجودة اليوم أمام مجالس العمل التحكيمية في المحافظات الخمس. هذا الرقم هو «الخلاصة» الموثّقة لمن صُرفوا تعسّفاً من أعمالهم العام الماضي، وفي الأشهر الثلاثة الأولى من السنة الجارية، فيما حقّقت وزارة العمل، عام 2018، في 1793 شكوى عمل فردية وعملت على حل الجزء الأكبر منها عن طريق الوساطة بين صاحب العمل والأجير.يعني ذلك أن الرقم «الرسمي» للمصروفين وصل الى أقل من ستة آلاف بقليل. إلا أن هذا ليس الرقم النهائي. ثمة جيش من المصروفين ممن يحلّون أمورهم «حبياً» مع صاحب العمل، ولا تعرف بهم مجالس العمل ولا الوزارة الوصية. قبل ثلاث سنوات، لامست تقديرات أعداد هؤلاء عتبة العشرة آلاف، وفي عام 2017 حدود الـ 11 ألفاً. اليوم، «لا شك في أن الأعداد ستزيد»، يقول الباحث في نشرة «الدولية للمعلومات» محمد شمس الدين، متوقّعاً أن تناهز 15 ألفاً. وهو رقم يمكن تحصيله من إفادات «ترك العمل» في الضمان. لكن، العداد لا يقف هنا. فهناك من يُصرفون في كل يوم بلا صخب، خصوصاً من العاملين في القطاعات الهامشية كالبناء والزراعة وغيرهما.

أنجل بوليغان - المكسيك

«الواقع حزين. منذ ثلاث سنوات الوضع يزداد سوءاً»، تقول رئيسة دائرة مراقبة عمل الأجانب والمتابعة لملف المصروفين مارلين عطا الله. وتوضح: «سابقاً كنا نتلقى حوالى 4 ملفات أسبوعياً، أما اليوم فنتلقى بين 9 و10 ملفات». ثمة مؤشر آخر على ازدياد حدة الأزمة، وهو عدد «طلبات التشاور» التي تقدّمت بها مؤسسات العام الماضي لإنهاء عقود العاملين لديها، وقد بلغت 55 طلب تشاور. ثمة زحمة في طلبات الصرف، يمكن الاستدلال عليها من «تفرطع» الطلبات بين جهات عديدة. فمنهم من يقصد الاتحاد العمّالي العام، ومنهم من يلجأ إلى الاتحاد الوطني لنقابات العمّال والمستخدمين، وآخرون يستشيرون المرصد اللبناني لحقوق العمّال والموظفين. بحسب آخر رقم يورده المرصد، «يستحوذ الصرف التعسفي على 47,8% من مجمل الاستشارات التي تردنا». فيما يشير كاسترو عبدالله، رئيس الاتحاد الوطني لنقابات العمّال والمستخدمين، إلى أن «الاتحاد وحده أحصى 3 آلاف حالة صرف العام الماضي، وبحدود 200 شخص العام الجاري».
«الصرف من العمل شغّال بشكل يومي»، يقول بشارة الأسمر، رئيس الاتحاد العمّالي العام، مشبّهاً دور الاتحاد بـ«متعهّدي دفن الموتى، حيث نعمل على تسوية أمور العمّال تمهيداً لإرسالهم إلى بيوتهم»!

«تحسين» شروط الصرف
من المادة 50/و من قانون العمل تنطلق المؤسسات في رحلتها نحو تسريح العاملين فيها، إذ تمنح هذه المادة «إجازة» لصاحب العمل لـ«إنهاء بعض أو كل عقود العمل الجارية في المؤسسة في حال اقتضت قوّة قاهرة أو ظروف اقتصادية أو فنية هذا الإنهاء، كتقليص حجم المؤسسة أو استبدال نظام إنتاج بآخر، أو التوقّف نهائياً عن العمل». أعطت هذه المادة «الحق» لصاحب العمل للإمساك برقاب الأجراء لديه، إذ ليست كل طلبات التشاور تعني أن المؤسسة تعاني أزمة مادية. مع ذلك، استناداً لما وفّره القانون، يتقدّم صاحب العمل بطلب تشاور لدى وزارة العمل قبل شهرٍِ من إعلام الموظفين بالصرف، على أن تحقّق الأخيرة في الطلب بـ«الاطلاع على موازنة آخر ثلاث سنوات للمؤسسة وإفادات الأجراء»، تقول عطا الله. بعدها، يأتي التبليغ، وتبدأ شكاوى العمل الفردية تنهال على الوزارة لتسجيلها و«توجيه العامل المصروف لتقديم شكوى أمام مجلس العمل التحكيمي لحفظ حقّه ضمن المهلة القانونية المسموح بها، وهي شهر فقط». لا وظيفة للوزارة، هنا، سوى «تحسين شروط الصرف»، بحسب وزير العمل السابق سجعان القزي. لذلك، غالباً ما يقبل المصروفون بالحل «الحبّي» في الوزارة، ولو جاء في أحيانٍ كثيرة على حسابهم، لسببين: أولهما تحصيل الحدّ الأدنى في ظلّ الأزمة، وثانيهما اليأس من سلوك درب القضاء الطويل.

مجالس «التدوير»
«مش عاجبك روح اتشكى». تنطبق هذه العبارة على ما يحصل في دعاوى العمل الفردية التي تصل إلى مجالس العمل التحكيمية. فعندما تفشل وساطة وزارة العمل، لا يبقى أمام المصروف سوى سلوك درب القضاء. لكن، هذه دونها سنوات طويلة، ما يشكّل مخالفة صريحة للمادة 80 من قانون العمل التي تنص على أن «مجالس العمل تنظر بالقضايا المرفوعة أمامها بالطريقة المستعجلة»، كما شدّدت المادة 50 على أن «أمام مجالس العمل مهلة 3 أشهر للبت بالقضية المطروحة أمامها».
هذا ما ينص عليه القانون. أما واقعاً، فإن القضايا العمّالية التي تحمل صفة الاستعجال تقبع في المجالس بين ثلاث وست سنوات.
الأسمر: الاتحاد كمتعهّدي دفن الموتى... نعمل على تسوية أمور العمّال تمهيداً لإرسالهم إلى بيوتهم!

يلفت المحامي قاسم كريم الى وصول 1128 شكوى عمّالية فردية إلى مجلس العمل التحكيمي في بيروت عام 2019، جرى تدويرها عن أعوامٍ سابقة، إضافة الى نحو 1009 شكاوى جديدة. في جبل لبنان، نحو 450 من أصل 1100 هي شكاوى «مدوّرة» عن أعوامٍ سابقة، وكذلك الحال في صيدا والنبطية وزحلة ولبنان الشمالي. يعزو كريم ذلك إلى جملة أسبابٍ، في مقدّمها النقص في عدد غرف مجالس العمل التحكيمية في المحافظات. مثلاً، في جبل لبنان، هناك ثلاث غرف فقط لأكثر من 1200 شكوى سنوياً، فيما الحاجة الى ما بين خمس وسبع غرف. في بيروت خمس غرف، تعمل أربع منها. في غرفة النبطية، مثلاً، تكمن المشكلة في أن القاضي الذي يرأس مجلس العمل التحكيمي هو في الوقت نفسه الرئيس الأول لمحكمة النبطية ورئيس محكمة الاستئناف المدنية ورئيس الهيئة الاتهامية. وكذلك الحال في غرفٍ أخرى.
ثمة أسباب أخرى للتأخير، منها «مثلاً مطالعة مفوّض الحكومة لإبداء الرأي التي تستغرق 3 أشهر، ثم 3 أشهر أخرى تؤجل خلالها الجلسات لإبداء الرأي بها، علماً بأنها استشارة غير ملزمة، إضافة الى العطلة القضائية» بحسب كريم. هذه تسعة أشهرٍ كاملة. يضاف إليها غياب أحد أطراف الشكوى والجهل المبرر لدى الأجراء بإجراءات التقاضي والتبليغ، كلها عوامل تطيل أمد المحاكمة. من هنا، يشير كريم إلى أن «معدّل بتّ الشكاوى يبدأ بأربع سنوات ويمتد إلى حدود 6 سنوات في حال كان الأجير هو من يتابع الدعوى، أما في حال وجود محامٍ فقد تستغرق 3 سنوات»، فضلاً عن أن الكثير من الدعاوى «تشطب في حال التغيب المتكرر لأحد الأطراف».
ثمة جانب مؤلم آخر يتعلّق بالحصيلة النهائية للحكم، والتي غالباً ما تصبّ في مصلحة أصحاب العمل. في تحقيق لـ«المفكرة القانونية»، عام 2014، تبيّن أن ممثلي الأجراء في المجالس «تحوّلوا إلى أعضاء صامتين (…) وقد صدرت قرارات كثيرة بالإجماع من دون أي اعتراض من هؤلاء (...)»، وهو ما يطرح تساؤلاً عن ممثلي الأجراء الذين يتم تعيينهم في مجالس العمل، إذ إنهم «جزء من سياسة المحاصصة، وقد يكون البعض منهم متورطاً في مسايرة أصحاب العمل»، بحسب الباحث والخبير الاجتماعي غسان صليبي.

قانون العمل مشكلة مزمنة
لن تتوقف أزمة الصرف ما دام هناك أزمة تهدّد اقتصاد البلاد. الصرف «شغّال» في كل القطاعات، الصناعي والاعلامي والسياحي وغيرها. رغم ذلك، قد تكون هذه مشكلة «آنية»، أما المشكلة «المستدامة» فتكمن في قانون العمل الذي يفتقر إلى عناصر الحماية للأجراء، ولا يزال، منذ خمسين عاماً، على حاله، اللهم إلا من تعديلات طفيفة. «وعدا عن كونه قديماً وتفوته الكثير من العناصر الحامية لحقوق الفئات الضعيفة، فقد صيغ في ظروف عادية، ولم يلحظ إمكانية حصول ظروف استثنائية كالتي نشهدها اليوم»، يقول صليبي. من هنا الحاجة «إما إلى تعديل القانون أو إلى إيجاد عقد اجتماعي يدخل فيه كل الأطراف، لأن العمّال غير قادرين على الدفاع عن أنفسهم وحيدين».

تقبع الشكاوى في مجالس العمل التحكيمية نحو 6 سنوات رغم أنها تحمل طابع «العجلة»!

وقد جرت محاولات في وزارة العمل لتعديل القانون، ولا سيما المادة 50 «التي ليست لمصلحة العمّال»، بحسب صليبي، لافتاً إلى «صوغ اقتراحات للتعديل تتغيّر من وزير عمل إلى آخر»، والى تأليف لجنة ثلاثية في الوزارة لتعديل القانون، «لكنها منذ مدة لم تجتمع». اليوم، ثمة محاولة لإعادة إحياء التعديلات على القانون، ويتردّد أن الوزير الحالي كميل أبو سليمان في صدد الاستعانة بمنظمة العمل الدولية لصوغ التعديلات انطلاقاً من مضمون الاتفاقيات الدولية. ولكن، في انتظار تلك التعديلات، يُفترض بحسب صليبي إعادة الزخم الى الحركات النقابية، خصوصاً القطاعية منها. فهذه الأخيرة «هزيلة وضعيفة إلى درجة لا تستطيع معها حتى الدفاع عن حقوق العاملين في القطاعات التي تمثلها. وتكاد تكون غير موجودة».



المصروفون أمام القضاء
2173 هو عدد الشكاوى الفردية التي تنظر فيها غرف مجالس العمل التحكيمية في بيروت الإدارية، منها 1009 شكاوى جرى تسجيلها مؤخراً، فيما دُوّرت البقية من أعوامٍ سابقة. العام الماضي، بتّت هذه الغرف 933 حكماً (410 أحكام نهائية و523 حكماً هي عبارة عن قرارات شطب وتحويل إلى وزارة العمل). أما في العام الحالي، فلم يبتّ أي ملف إلى الآن.
في غرف مجالس العمل التحكيمية في جبل لبنان، سجّلت العام الماضي 1300 شكوى، فيما شهد العام 2017 تسجيل 1200 شكوى، وسجّل نحو 430 شكوى منذ مطلع العام الجاري. وقد أصدرت غرف جبل لبنان العام الماضي نحو 700 حكم، ما يعني أن عدد الشكاوى المقدمة هو ضعف عدد ما يتمّ بتّه.
غير أن أرقام بيروت وجبل لبنان لا يمكن تعميمها على بقية المناطق. في المحافظات الثلاث التي تحوي مجالس عمل تحكيمية يتراوح عدد الملفات بين 60 و150 كحدّ أقصى. ويعود السبب إلى أن غالبية المصروفين، إما أنهم لا يملكون ثقافة قانونية فتفوتهم المدة المسموحة للتقدم بشكوى، وإما أنهم يجهلون بإجراءات التقاضي. كما أن الكثير من الشكاوى في هذه المناطق يُحلّ «حبياً»، خصوصاً أن غالبية المؤسسات هناك تتخذ طابعاً عائلياً.


تأخير البتّ إنكار للعدالة
أجبر عمال فرنسيون دولتهم على تعويضهم عن التأخير غير المبرر الذي سلكته قضية صرفهم أمام مجلس العمل التحكيمي. لم يستطع هؤلاء «بلع» 3 سنوات استغرقتها قضيتهم التي يفترض أنها تحمل طابع العجلة أمام محكمة الشغل، فتقدموا بدعوى في وجه الدولة طالبوا فيها بتعويضهم. وقد صدر القرار عن المحكمة حينذاك بإدانة الدولة، لأن ما فعلته محكمة الشغل يشكل «إنكاراً للعدالة». وعلّلت قرارها بأنه «عندما لا تستطيع الدولة وضع وسائل وأدوات العمل الضرورية أمام العدالة لحسم النزاعات في آجال معقولة، خصوصاً أن نزاعات الشغل تقتضي صدور أحكام سريعة، فإن ذلك يعدّ إنكاراً للعدالة». وقضت بإلزام الدولة تعويض كل متقاضٍ بين 3000 و4500 يورو بحسب الوقت الذي استغرقته القضية.