«الحَقَّ أقولُ لَكم: كلّ ما فعلتموه لأحد إخوتي هؤلاء الصغار، فلي قد فعلتموه» (متّى 25: 40)
هناك نوع معيّن من السقطات المثيرة للإشمئزاز، نتوقّعه عادةً من أهل السياسة، لكنّنا لا نتوقّعه من رجل دين مرموق، يمتلك السلطة المعنويّة والاخلاقيّة. كتب الأب كميل مبارك على تويتر: «كثيرون يشكون من العمالة السورية، والأغراب في السوبرماركت والمطاعم، والملاحظ أن هؤلاء الذين يشكون يرتادون المطاعم بشكل كثيف. لهم أقول: إما كلوا ولا تشتكوا، أو قاطعوا تلك المطاعم وشجّعوا أصحابكم على مقاطعتها موضحين الأسباب، فبالمقاطعة تعلّمون أصحاب المطاعم معنى الوطنيّة». لقد ارتكب الأبونا، كل المعصيات مجتمعة، في تغريدة واحدة: العنصريّة، ورهاب الغريب، وتضليل الناس، والتحريض على الحقد، واللعب على الخوف، وتزوير الواقع، ومخاطبة الأهواء والغرائز بدلاً من القلب والعقل والضمير.
لقد أتحفنا الأبونا بعظة افتراضية متشنّجة، محرضاً الضحايا على الضحايا، فيما الأسياد المسؤولون عن قهرنا وبؤسنا، عن كل الكوارث السياسية والاقتصادية التي تسحقنا، يواصلون تجاراتهم المربحة بدمائنا. الأب مبارك يريد طرد «الأغراب في السوبرماركت والمطاعم»! عتاة اليمين العنصري في أوروبا لم يصلوا إلى هذا الحد. إنّه لَتطبيقٌ غريب لتعاليم المسيح، أن ندفع الناس الى التكاره والأذيّة المتبادلة، بدلاً من التوجّه الى جذور الأزمة، ومواجهة الخطر المشترك والبحث عن حلول منطقيّة، عادلة للجميع… كل ذلك تحت سقف المصلحة الوطنية التي ليس «الأغراب» من فرّط بها. اللاجئون على اختلاف فئاتهم التي لا يجوز اختزالها إلى صورة نمطيّة موحّدة، ليسوا خطراً بحد ذاتهم. ليسوا أعداء، بل إخوة. عدونا هو الطبقة السياسية التي تركت البلد ينهار، والفوضى تتفشّى، وهي المسؤولة عن كل أزماتنا ومشاكلنا! أباطرة النظام اللبناني الذين صنعوا هذه المعضلة، يواصلون تلاعبهم بها لأغراض دنيئة. بعضهم، من أبواق المحور المهزوم في سوريا، يعمل على عرقلة العودة الآمنة للاجئين. وبعضهم الآخر، يلعب على مشاعر العنصريّة والخوف لرفع شعبيته، واخفاء عجزه عن ادارة الأزمة. كل سماسرة الجمهوريّة مستفيدون من اللجوء السوري!
لكن ما الذي يدفع برجل دين، إلى لعب دور تحريضي، اقصائي، على أساس فهم اختزالي ومغلوط للمعضلة؟ دعك من البعد الأخلاقي، أين «الوطنيّة» في تشجيع اللبنانيين على العنف ضد إخوة لهم مستضعفين مثلهم، مغلوب على أمرهم، لم يختر أي منهم المصير التراجيدي الذي جعله مشرّداً يرى فيه الآخرون عالة عليهم وعبئاً؟ بل ما الحكمة الاقتصادية من تحميل «اللاجئين» ظلماً مسؤولية أزماتنا؟ علماً أن جزءاً مهمّاً منهم يخدم الاقتصاد، ويلبّي حاجات ملحّة في قطاعات مختلفة. أما المشاكل الضاغطة، فتحتاج الى تدخّل سياسي، على أساس تخطيط ومعطيات ورؤيا. هل نذكّر الأب مبارك أن هذه «العمالة السوريّة» التي يحرّض عليها، أعادت بناء بيروت، أو بالأحرى استعبدها الأغنياء في ظروف عمل غير انسانيّة، لمراكمة الثروات والاستثمارات العقاريّة؟
ليس في الدفاع عن كرامة أهلنا السوريين في لبنان، ورفض تحويلهم كبش فداء، أي طوبواويّة أو سذاجة. لا يختلف اثنان على أن لبنان يواجه مشكلة عظمى، هي الحرب التي تخاض ضد شعوب المنطقة، وكانت سوريا احدى تجلياتها الكارثيّة، ومعضلة اللجوء السوري إلى لبنان جزء أساسي، متفاقم، منها. من هذه الزاوية ينظر الى الأمور يا أبونا، وليس باللعب على الخوف، وبالتحريض على الفقراء، وبالدعوة الى مقاطعة المطاعم التي فيها «أغراب»! إنّها قضية صعبة وخطيرة، لا أحد يدعو الى التقليل من أهميتها أو التعامي عنها. فقط ندعو الى عدم استغلالها بقلة مسؤولية، وعدم إطلاق العنان لطاعون العنصريّة ورهاب الغريب! ندعو الى التفريق بين الموقف السياسي الجذري الرافض للسياسات الأميركية في استعمال اللاجئين كورقة في حربها الاستعماريّة على شعوب المنطقة (أي تعجيل عودتهم الآمنة إلى ديارهم بكل الوسائل)، وضرورة تنظيم وجودهم الموقت بين أهلهم في لبنان، لحمايتهم وحماية المجتمع المضيف. هذا يتطلّب قواعد عقلانيّة عادلة، ومعطيات علميّة، وسياسات واضحة تُدخلهم في الدورة الاقتصادية التي تحتاجهم، وتحمي اللبنانيين من المنافسة المتوحشة.
العقليّة المذعورة التي عبّر عنها الأب مبارك، تهدد بالتفشّي في كل المناطق والأوساط والبيئات، ويجب أن نحاربها كالطاعون. إن خطاب رهاب الغريب لن يحل أي مشكلة من مشاكلنا في لبنان، بل سيزيدنا بشاعة وخوفاً وتوتّراً. فهو يعبّر عن ذاك الـ «لبنان الذي نكره». لبنان العنصري، الشوفيني، المذعور. لبنان المنفصم، كاره نفسه، المتعالي عن بيئته، المتماهي مع قوى الاستغلال والاستعمار. لبنان المستلب الذي يتغنّى بصورته فوق مستنقع التخلف والهمجيّة والتعصّب. هذا ليس لبناننا، ولا يجب أن يكون.