كأنه مشهد تحرير معتقلي سجن الخيام تكرّر أمس في مستشفى الفنار للأمراض العصبية والنفسية في المصيلح. ذوو المرضى ومواطنون كسروا الصمت فوق تلة الصنوبر التي اختيرت في الستينيات لإنشاء مستشفى بديل من «العصفورية» التي استبدلت بفروع في المناطق. اقتحموا البيت القرميدي المقسم إلى عنابر، وفتحوا الغرف التي كان الدخول إليها، حتى قبل أيام قليلة، ممنوعاً لغير الموظفين. الظلمة الكئيبة وملامح الموظفين الحادة لا يبددها سوى انشراح الوجوه في «البراويز» المعلقة لمؤسس المستشفى وزير الصحة الراحل عبد الرحمن اللبان وزوجته وابنته اللتين تولتا الإدارة بعده. زيارة وزير الصحة جميل جبق للمستشفى كسرت المحظور. الروائح الكريهة، رغم آثار «الشطف» الحديث للأرضية والجدران العفنة وانعدام التدفئة، دفعت جبق الى طلب الخروج إلى الباحة الخارجية للحديث إلى وسائل الإعلام. فيما لم يتسنّ له تفقد عنبر النساء السفلي أو المطبخ الفارغ وخزائنه القذرة والمراحيض المقطوعة من المياه. أعلن وزير الصحة أن المكان «غير مؤهل لاستقبال المرضى، وما رأيناه مأساة أخلاقية واجتماعية وصحية»، و«في غضون يومين، سنقفل المستشفى لإعادة فتحه لاحقاً على يد الوزارة إذا سمحت الإمكانات. أما المرضى، فسينقلون إلى مستشفيات الزهراء في العباسية والمعونات في جبيل وجويا الرعائي على نفقة الوزارة»، لافتاً الى أنه سيحوّل الإدارة إلى النيابة العامة المالية التي أعلنت أمس أنها ستفتح اليوم تحقيقاً في الأمر.ضاع المرضى بين زحمة الزوار غير المعهودين: عجزة وشبان بملابس خفيفة من دون جوارب، لم يستوعبوا لماذا ازدحم الزوار في ساعة واحدة، بينما البعض منهم تركه أهله منذ أكثر من 30 عاماً على باب المستشفى وغادروا من دون أن يعرفوا عنه شيئاً، أو لماذا أغدقت السماء عليهم دفعة واحدة أنواعاً من الطعام والشراب والثياب بعدما جاعوا وبردوا لسنوات؟
تباينت مواقف الأهالي حول مسؤولية صاحبة «الفنار» سمر اللبان. البعض اتهمها بـ«قبض أموال من الأهالي من دون صرفها على أبنائهم»، فيما اتهم آخرون شركاء لها وموظفين باستغلال غيابها الدائم. هذه الرواية لمحت إليها اللبان في اتصال مع «الأخبار» مساء الجمعة قبل أن يفقد الجميع التواصل معها. وكانت اللبان قد أبلغت «الأخبار»، في تشرين الثاني الماضي نيتها إقفال المستشفى بعدما باعت معظم أراضي والدها المحيطة به ولم يبق سوى العقار الذي أقيم فوقه المبنى الحديث الذي شيدته الحكومة الإيطالية عام 2010. وشكت من «عجز مالي وديون متراكمة تمنعنا من توفير الاحتياجات اللازمة للمرضى»، مشيرة الى أن للفنار في ذمة وزارة الصحة 11 مليار ليرة متراكمة منذ عام 2004. راجع (مستشفى «الفنار» نحو الإقفال)
الطبيب المشرف في المستشفى ماجد كنج أكد أن المستشفى «معطل بسبب سوء الإدارة وغياب الكفاءة لدى أصحابه، إلى جانب إهمال وزارة الصحة». ولفت إلى أن الموظفين والأطباء الذين بقي منهم 17، لم يقبضوا رواتبهم منذ أكثر من عامين، ما يدفع الى التساؤل عن مسؤولية وزراء الصحة المتعاقبين. فمنذ سنوات، يتناقل أهل المنطقة وذوو المرضى روايات مؤلمة عن أحوال المستشفى، وعن «تعذيب المرضى وربطهم بالجنازير»، فيما سُجّلت آخر زيارة لوزير للصحة للمستشفى عام 2010 عندما افتتح الوزير السابق محمد جواد خليفة المبنى الجديد.
والفنار من مستشفيات الأمراض المزمنة المصنفة بالفئة الثانية التي يديرها القطاع الخاص وتتلقّى اعتمادات مالية من الدولة. بين عامي 2011 و2018، تراوح السقف المالي للمستشفى بين 600 و800 مليون ليرة في السنة، بحسب مراسيم التحويلات الواردة في الجريدة الرسمية، وهي أرقام ضئيلة مقارنة بسقوف مالية لمستشفيات لا تعمل! ففي عام 2016، على سبيل المثال، حوّل الى مستشفى الحكمة في النبطية (لا يستقبل مرضى) 614 مليون ليرة، ولمستشفى قانا الحكومي المقفل 200 مليون ليرة. جبق وعد أمس بـ«إعادة النظر بالسياسات تجاه مستشفيات الفئة الثانية ووضع عقود جديدة مع كل منها بحسب قدراتها وحجم كادرها الوظيفي والطبي وعدد أسرّتها».