قبل عامين، بدأتُ العمل كأخصائية نفسية في عيادة منظمة أطباء بلا حدود في مخيم شاتيلا في بيروت. كنت قد توقعت أن عملي مع اللاجئين السوريين سيرتكز على التعامل مع حالات الصدمات النفسية، جرّاء ما شهدوه في الماضي، لكن سرعان ما تبيّن لي أنّ التحديات اليومية التي يعيشها اللاجئون هي محور الحالات التي أتابعها. تأسّس مخيم شاتيلا في عام 1949 من أجل استقبال اللاجئين الفلسطينيين. أمّا اليوم، فهو يستضيف السوريين والفلسطينيين والفلسطينيين القادمين من سوريا، إضافة إلى أقليّات أخرى مثل الإثيوبيين والفيليبينيين، وجميعهم يشتركون بالمعاناة.
في شاتيلا، يعاني الناس مرارة الحرمان من أبسط احتياجاتهم. يصارع اللاجئ عموماً، وبشكلٍ يومي، ليعثر على طعام ليسدّ جوعه وليضمنَ أمنه وسلامته وليتمكّن من تطوير نفسه وإمكاناته وتحقيق تطلّعاته. وبرغم ما يملأ ماضي اللاجئين من صدمات، وما يُثقل كاهلهم من فقدان أحبائهم، وخسارة ممتلكاتهم ونزوحهم إلى أرض غريبة عنهم، إلا أنهم يجرّبون ـ في كل يوم ـ مواجهة الذل والتمييز ويعيشون في حالة دائمة من عدم اليقين إزاء المستقبل. وكل ذلك يترك أثراً على صحّتهم النفسيّة.
من ضمن المرضى الذين يستفيدون من الخدمات الصحّية التي تقدمها عيادة المنظمة في المخيم، عدد من اللاجئين السوريين، وخصوصاً النساء اللواتي يسعين للحصول على خدمات الرعاية النفسية التي نقدّمها. وفي ظل الظروف المعيشية الصعبة، نجد أن بعض الأزواج غالباً ما يترجمون إحباطهم بتعنيف نسائهم، سواء أكان العنف لفظياً أو جسدياً أو اجتماعياً أو اقتصادياً. ولا أحد يستغرب إن كانت عدّة مواجهة المعنّفات هو الصمت، فهن في الغالب يحتمين بالصبر، بغضّ النظر عما يختلجهنّ من مشاعر. وتَراهن يكدحن في سبيل أزواجهنّ وأطفالهنّ، بينما الألم يسكن قلوبهن. إنّ تلك النساء اللاتي لا يسمع أحدٌ صوتهن ولا يكترث أحدٌ لدموعهن، هنّ الأكثر تعطّشاً للرعاية والحنان.
خلال العام الماضي، قدّمت المنظمة أكثر من 3000 استشارة نفسيّة فرديّة. استشارات انتهت إلى خلاصة مفادها أن الغالبية تعاني من أعراض متعلّقة بالصحة النفسية، وهي ناجمة عمّا عاشته من محنٍ وما تختبره من ظروف صعبة في حياتها اليوميّة. وتمثّل الكآبة والقلق واضطراب ما بعد الصدمة، أبرز الحالات التي نتابعها.
على عكس الأماكن الأخرى التي عملتُ فيها، ينطوي عملي كأخصائية نفسية في مخيم شاتيلا على الكثير من التحديات، ذلك أن المشاكل التي نواجهها لا تتعلق بالصحة النفسية فحسب. فمن الصعب تقديم المساعدة إلى شخص يعاني من مشكلة نفسية في حين يؤرقه عدم قدرته على تأمين الغذاء لأطفاله أو توفير سكن لائق وآمن لهم.
من خلال عملي مع منظمة أطباء بلا حدود، بتّ أعرف أنّ اللاجئين عالقون ما بين الماضي والحاضر من دون أيّ مخرج يلوح في الأفق. فمن جهة، هم يتوقون إلى العودة إلى ديارهم وإلى دفء بيوتهم وحضن أحبّائهم. ولكن بعضهم يرى أن لا مجال للعودة حاليّاً، فبيوتهم حطام وحياتهم يهدّدها الموت ومعيشتهم تقطّعت سُبُلها. ومن جهة أخرى، هم يتوقون إلى العثور على الأمان في بلادٍ تخلو من الحرب، ولكن أيّ أمان هذا! فما من غذاء يكفيهم ولا سقف يؤويهم، وقليل من الناس مَن يحترمهم.
إن العمل مع اللاجئين بالنسبة لي مثل البلسم الشافي، فلطالما اضطررت أن أحبس دموعي أثناء أدائي عملي، ولكن في ذات الوقت، أجد أنّ معنوياتي ترتفع بعد أن أستقبل إنساناً وأتعاطف مع ألمه، وأحوز على تقديره، وأرى ابتسامة ترتسم على وجهه. لقد لمست كيف يبدأ الناس بتقبّل واقعهم وببناء قدرتهم على الصمود، ورأيت كيف يستطيع بعض الناس تغيير ظروفهم بعد تلقّيهم للدعم النفسي، كما رأيت كيف أنّ باستطاعة الناس أن يستعيدوا الأمل بالإنسانية بعد أن يدركوا أن ثمّة من يهتم بهم. كثيراً ما يسألني أصدقائي عن سبب اختياري للعمل هنا في حين أنّ بمقدوري العمل في ظروف أفضل بكثير، وإجابتي لا تتغير أبداً: «لو كان الجميع يقولون ما تقولونه، لما مدّ أحد يد العون إلى الناس الذين هم بأمسّ الحاجة إلى المساعدة».
أعتقد أنني موجودة على وجه هذه الأرض لسببٍ ما، ويتوجب عليّ القيام بدوري مهما صغر حجمه، على أمل المساهمة في تأمين بعض من الرفاه لصالح من يعاني من البشر. بالنسبة إليّ، يكفيني أن أرى ابتسامة واحدة ترتسم على وجهٍ أرهقه الحزن، أو أن ألمح الأمل يتغلغل في قلب إنسانٍ نسي معنى الأمل، أو أن أسمع كلمة عرفان واحدة تنطقها شفاه كانت قد اختارت الصمت، لأكون على يقين من قيمة ما أقوم به.

* أخصائية نفسية (في منظمة أطباء بلا حدود) تروي تجربتها في العمل مع اللاجئين في مخيم شاتيلا.