منتصف العام الماضي، قامت ورشة هدم «ع السكت» عند عتبة حيّ عبد الوهاب الإنكليزي في شارع مونو. استفاق الأهالي على أصوات طرق حجارة بيت عتيق (هو جزء من أربعة مبانٍ تراثية تعود إلى الحقبة «الكولونيالية»، وتقع ضمن العقار 1231 على مساحة 1849 متراً مربعاً). وقف سكان الحيّ يتفرجون على الحجارة تتدحرج ومعها ذاكرة الحيّ. لم يكن في اليد حيلة، فثمة قرار «رسمي» صادر عن وزير الثقافة غطاس خوري يسمح بالهدم، مصحوباً بـ«تصريح» من محافظة مدينة بيروت، وكان قد مهّد له بقرار حمل الرقم 38، قضى بموجبه الوزير، غطاس خوري، بإبطال القرار 116 الذي أصدره سلفه ريمون عريجي، والذي كان يضع هذا العقار ومبانيه على لائحة الجرد للأبنية التاريخية.كان يمكن أن تسقط المباني الأربعة، لكن شيوع خبر الهدم دفع محافظ بيروت زياد شبيب إلى سحب تصريح الهدم في الرابع من حزيران، فيما سلكت القضية مساراً قضائياً، بعدما تقدمت جمعية «تشجيع حماية المناظر والمواقع الطبيعية والأبنية القديمة في لبنان» (a.p.s.a.d)، في السادس من حزيران، باستدعاء مراجعة إبطال مع طلب وقف تنفيذ أمام مجلس شورى الدولة لإبطال قرار وزير الثقافة، وتبعها، في 26 آب، طلب تدخّل في القضية من جمعية «التجمع للحفاظ على التراث اللبناني».
اليوم، بعد سبعة أشهرٍ، لا يزال قرار وقف الهدم سارياً… من دون أن يعني ذلك أن المباني الأربعة باتت في مأمن. ففي لحظة «تخطّي صلاحيات»، قد تسقط كلها بضربة جرافة عقاريّ ما، خصوصاً أن لا جواب من الوزارة بعد على قرار إعدادي لـ«الشورى» (صدر في 26 أيلول) بوقف تنفيذ القرار المطعون فيه وتكليف المستدعى ضدها (الدولة، وزارة الثقافة) إيداع المجلس الملف الإداري العائد إلى القرار.
القرار الإعدادي أوقف تنفيذ القرار 38 «لصدوره عن مرجع غير صالح لإصداره، وتخطي سلطة عليا لصلاحيات سلطة دنيا». «السلطة العليا» هي الوزير الذي استعاض عن دوره وصيّاً ليتخذ قرارات من اختصاص «سلطة دنيا» اسمها المديرية العامة للآثار، فأسقط قرار وزير ثقافة سابق بوضع العقار على لائحة الجرد من دون أن يأخذ برأي المديرية بحسب الأصول القانونية. لا بل فعل ذلك برغم وجود تقرير صادر عن المديرية عام 2015 يبين القيمة المعمارية والتاريخية لمباني العقار، «ما يستوجب الحفاظ عليه من أجل النسيج الحضري للحيّ»!
بالنسبة إلى الجهة المستدعية، فإن «انتصاراً تحقق بوقف تنفيذ القرار»، بحسب محامي «أبساد» نديم سعيد. لكن ثمة تتمات لـ«التأمين» على المباني: وهي إيداع المستدعى ضدها (الدولة، وزارة الثقافة) جوابها والملف الإداري لدى «الشورى». وحتى الآن، يقول ممثل «التجمع للحفاظ على التراث اللبناني» رجا نجيم، «لا حسّ ولا خبر من الدولة»، رغم أن القانون يلزمها بتقديم جوابها، عبر هيئة القضايا، وإيداع «الشورى» الملف الإداري.
نقابة المهندسين أكّدت أن الأبنية الأربعة سليمة ولا تشكل خطراً على السلامة العامة


يلفت نجيم إلى أن خوري، في مخالفة ثانية لتبرير قرار الهدم، استعان بخبراء من خارج المديرية أفادوا بأن «تلك المباني لا تحتوي على عناصر معمارية أو تراثية مميزة تستدعي الحفاظ عليها، ولا تساهم في إنعاش أية ذاكرة جماعية في المدينة». واستند أيضاً إلى كتاب لمحافظ بيروت صدر بناءً على تقرير الدائرة الفنية المختصة في البلدية، أشار إلى «أن المبنى آيل إلى السقوط ويشكل خطراً على السلامة العامة». علماً أن التقرير الأساسي الصادر في تشرين الأول 2014 يطلب من المالكين ترميم المبنى، من دون الإشارة إلى خطر انهياره.
خوري استند أيضاً إلى قرار صدر عن «شورى الدولة» عام 2017 سمح بالهدم بناءً على دعوى تقدّم بها المالكون لإبطال قرار سابق للوزارة. لكن ما بين تقديم الدعوى وصدور القرار، كانت المباني قد أدخلت في لائحة الجرد. برغم ذلك، عوّل الوزير على حكم الشورى مرتين: في الأولى، ليسقط المباني عن اللائحة، وفي الثانية للسماح بالهدم «بشرط المحافظة على الواجهة الأساسية، وخصوصاً الشرفات»، و«بسبب تعذر استملاك المباني ولعدم قدرة المالكين على الترميم»، وهو التبرير الذي بات لازمة عند الحديث عن مصير أي مبنى تراثي.
ولكن، على قاعدة «المي بتكذب الغطاس»، جاء تقرير الكشف الذي قامت به نقابة المهندسين في السادس من حزيران الماضي، والذي لفت إلى أنه «من خلال المعاينة النظرية وخبرتنا، فإن الأبنية القائمة على العقار 1231 سليمة ولا يوجد فيها أي تصدعات أو تفسخات، وبالتالي لا داعي لهدمها، ولا تشكل خطراً على السلامة العامة. لكنها في الوقت ذاته تتطلب القيام بأعمال الصيانة اللازمة (نتيجة العوامل الطبيعية)».
اليوم، لا يزال الوضع على حاله. لكن، لا يعني ذلك أن المباني الأربعة باتت في أمان. فقرار مجلس الشورى إعدادي، وهو ألغى تنفيذ القرار 38، لكنه لم يُسقطه، في انتظار أجوبة وزارة الثقافة التي لم تأتِ بعد. وما يحدث في العقار 1231 يشبه ما حدث قبله وما يحدث حالياً في قضية العقار 740 في منطقة الباشورة. في جلّ الحالات، تتخذ وزارة الثقافة مساراً فوق القانون، وفوق ما بقي من الذاكرة الجماعية لمدينة بيروت، متغاضية عن تهديد طابعها التراثي ونسيجها الحضري. وهو مسار يؤكد أن الحفاظ على التراث أكثر أهمية وخطورة من أن يُترك لوزير ثقافة... أياً كان اسمه.