عدم تصديق لبنان اتفاقية باريس المناخية، حتى الآن، لا يعني أنه يمكن أن ينفذ من دفع «ضريبة الكربون» التي ستفرضها الدول، عاجلاً أو آجلاً، على استهلاك الوقود الأحفوري، المسبب الأول للانبعاثات، أو على السلع بعد درس «بصمتها الكربونية»، أي ما تتسبّب به من تلوث في عملية استخراجها وتصنيعها واستهلاكها وحتى تحوّلها إلى نفايات. ويخطئ من يعتقد بأن مساهمتنا «الضئيلة» في الانبعاثات العالمية، وعدم صدور اتفاقيات دولية صارمة وملزمة لخفض الانبعاثات ــــ مثل اتفاقية باريس التي أبرمت منذ 3 سنوات ــــ تبرر أي إهمال لهذه القضية الخطيرة ومتطلّبات التخفيف منها والتكيّف معها.في البداية، يفترض قياس مدى مساهمتنا في الانبعاثات العالمية. وهذا يتطلّب معرفة كيف يتم احتساب «بصمة الكربون» للدول وكيفية قياسها. إذ إن هناك وجهات نظر عدة لقياس الانبعاثات وتحديد البلدان الأكثر تلويثاً وتسبباً بتغير المناخ. فاحتساب الانبعاثات، مثلاً، على أساس استهلاك الدول للوقود الأحفوري في محطات توليد الطاقة وفي قطاعات النقل والصناعة والسكن والزراعة وغيرها، يجعل من الصين الملوّث الأكبر مع تسببها بانبعاث سبعة مليارات طن من ثاني أوكسيد الكربون سنوياً، تليها الولايات المتحدة بنحو ستة مليارات طن، ثم الهند وروسيا (بحسب أرقام مؤتمر دوربان المناخي عام 2011). أما القياس باحتساب تقلّص مساحات الغابات (وهي عملية مسؤولة عن ربع الانبعاثات العالمية)، فيُحلّ البرازيل وأندونيسيا في رأس القائمة. فيما احتساب الانبعاثات وفق حجم الصناعات التي تستخدم الوقود الأحفوري نسبة الى عدد السكان، فيجعل من قطر الأكثر تلويثاً (53 طناً للشخص)، وتصبح الهند والصين في أسفل اللائحة.
صحيح أن التركيز عالمياً، في قياس الانبعاثات، هو على ثاني أوكسيد الكربون الناجم عن احتراق الوقود الأحفوري. الا أن هناك غازات من مصادر أخرى لا تقل خطورة وتأثيراً على تغير المناخ، كغاز الميتان المتولد من معالجة النفايات ومن بعض الزراعات والسدود (تأثيره السلبي أكبر بـ 34 مرة من غاز ثاني أوكسيد الكربون بحسب التقرير الخامس للهيئة الحكومية المعنية بتغير المناخ عام 2013)، وغاز أوكسيد النيتروز المتولد من التوسع في تربية الحيوانات (يفرزه تنفسها وفضلاتها) ومن بعض الزراعات ومن احتراق النفايات واحتراق الوقود الأحفوري، والذي تفوق انبعاثاته غاز ثاني أوكسيد الكربون بـ 298 مرة.
بناءً على هذه المعطيات، وبحسب نمط حياة اللبنانيين، يصنف لبنان بلداً ملوِّثاً، ومساهماً بشكل كبير في تغير مناخه ومناخ العالم. فقطاع النفايات فيه، بحسب آخر دراسة لوحدة تغير المناخ في وزارة البيئة عام 2015، ينتج نحو 10% من انبعاثاته المتسببة بتغير المناخ، وهي انبعاثات تعادل ما يفرزه القطاع الصناعي!
أما إنتاجنا لأوكسيد النيتروز المسبب لتغير المناخ على المستوى العالمي، فإنه بمجرد مراجعة لاستهلاكنا للحوم الحمراء والبيضاء، تظهر شراهة لا تضاهينا فيها الدول المتقدمة والغنية (بحسب إحصاءات موقع «بلانيتوسكوب» الفرنسي عام 2016، يستهلك الفرد الفرنسي نحو 66 كيلوغراماً من اللحوم سنوياً، بينما يحتاج الأميركي إلى نحو 75 كيلوغراماً)، فيما نستورد 36 ألف طن من اللحوم سنويا وننتج 17 ألف طن من اللحوم الحمراء و198 ألف طن من اللحوم البيضاء، بمعدل استهلاك يتجاوز 65 كيلوغراماً سنوياً للفرد في لبنان، من دون احتساب الأسماك والمنتجات البحرية!
وفي قطاع إنتاج الطاقة، فإن ميزة لبنان (السلبية) أنه ضاعف انبعاثاته مع اعتماده بشكل كبير على المولدات الخاصة العاملة على الديزل ذي التأثير القاتل على المناخ وعلى الصحة العامة. أما في قطاع النقل، ثاني أكثر القطاعات تلويثاً بعد الطاقة، فقد تمادينا كثيراً في اعتماد سياسات معاكسة لما هو سائد في العالم، فدمّرنا قطاع النقل العام وألغينا السكك الحديد (بدل أن نطورها ونحدثها ونتوسع في اعتمادها)، ومنحنا الأفضلية لاستخدام السيارات الخاصة المتسببة بمضاعفة الانبعاثات. والأمر نفسه ينطبق على قطاع إدارة المياه. فبدلاً من تطوير المعامل الكهرومائية لتوليد الطاقة على منحدرات الأنهر الطبيعية للتوفير في إنشاء المعامل الحرارية، نحاول اليوم أن نسد بعض الأنهر والأودية بسدود سطحية لحبس المياه، ما يتسبب بإنتاج غاز الميتان المسبب لتغير المناخ!
يتضح من ذلك كله، ومن غيره الكثير أيضاً، أن لنا «بصمتنا الكربونية» الواضحة في تغيّر المناخ العالمي، فيما وزاراتنا المعنية، وفي مقدمها وزارة البيئة، غافلة عن وضع استراتيجية شاملة للتخفيف والتكيف مع هذه الظاهرة المناخية الخطيرة. مع العلم، وهنا المفارقة، بأن المطلوب فعلاً لإنقاذ المناخ وتخفيف الانبعاثات، هو نفسه المطلوب لتحسين وضعنا الاجتماعي والاقتصادي وزيادة أمننا الغذائي والصحي والشخصي.
فهل نبالغ أيضاً إذا ما طالبنا، في المخاض الحكومي الحالي، بحسن اختيار وزير للبيئة، ملمّ ببعض هذه المعطيات بما يدفعه الى تنكب مسؤولية وضع استراتيجية شاملة، عجز من سبقوه عن وضعها، تخرج لبنان من الجحيم البيئي الذي وقع فيه؟!