تحوّل التأمين الإلزامي على المركبات البرية إلى «خوة» تجبيها شركات التأمين من دون الوفاء بالتزاماتها تجاه حاملي البوالص، إذ أن هذه الشركات تعمد في أغلب الأحيان الى التهرّب من مسؤولياتها، ما يكبّد الصندوق الوطني للضمان الاجتماعي ووزارة الصحة وتعاونية موظفي الدولة وغيرها من الجهات الضامنة أموالاً طائلة، في وقت تراكم فيه الشركات أرباحها بعيداً عن أي رقابة.نحو ثلاثة مليارات ليرة هي مجموع النفقات التي دفعها الصندوق الوطني للضمان الاجتماعي، في السنوات السبع الماضية، لتغطية تكاليف استشفاء مضمونين تعرّضوا لحوادث سير. هذه الأموال كان مُفترضاً أن تدفعها شركات التأمين بموجب بوليصة التأمين الإلزامية المفروضة على المركبات البرّية.
مصادر إدارية في الصندوق، أوضحت أن الأخير تكبّد هذه التكاليف بسبب تهرّب شركات التأمين من الدفع، و«في أحسن الأحوال، كنا نتوصل مع إحداها الى دفع نصف التكاليف، رغم أن القوانين تنصّ بوضوح على المسؤولية الكاملة لهذه الشركات».
واللافت أن الصندوق الوطني للضمان الاجتماعي ليس الجهة الضامنة الوحيدة التي تدفع تكاليف الاستشفاء نيابة عن شركات التأمين بسبب تهرّبها. إذ يوضح عضو المجلس الاقتصادي والاجتماعي صادق علوية أن وزارة الصحة وتعاونية موظفي الدولة وصندوق تعاضد القضاة وغيرها من الجهات الضامنة تقوم أيضاً «بتغطية تكاليف الاستشفاء للأشخاص الذين يتعرضون لحوادث السير نيابة عن شركات التأمين التي تتملّص من مسؤولياتها المفروضة في القانون».
وبموجب المادة الثانية من المرسوم الاشتراعي 105 (30/6/1977)، فإنّ على صاحب كل مركبة برّية أن «يعقد ضماناً لدى هيئة ضمان مرخص لها بمزاولة أخطار المركبات، يُغطّي المسؤولية المدنية التي يمكن أن تترتب عن الأضرار الجسدية التي تسببها مركبته للغير». لذلك، يلجأ معظم أصحاب المركبات البرية الى شركات التأمين للحصول على بوليصة تأمين إلزامية تُقدّر كلفتها بنحو 50 دولاراً يتم دفعها سنوياً (المعدل الوسطي لسعر البوليصة).
علوية قال لـ«الأخبار» إنّ مبلغ الـ 50 دولاراً الذي تتقاضاه شركات التأمين تحوّل إلى «خوّة»، في ظل غياب الرقابة عليها.
صيغت القوانين بالدرجة الاولى لحماية شركات التأمين وجعلها هي من تراقب نفسها!


في 26 حزيران الماضي، أرسلت مصلحة القضايا في الصندوق الوطني للضمان كتاباً إلى لجنة مراقبة هيئات الضمان التي تخضع لسلطة وزارة الاقتصاد والتجارة تشكو فيه امتناع الشركات التي تتولى الضمان الإلزامي عن دفع أجور وطبابة واستشفاء المضمونين «ما يضطر الصندوق إلى تحمّل نفقات استشفاء المضمونين والمُستفيدين»، ويلفت إلى ضرورة إلزام الشركات الالتزام بالعقود الموقعة مع المضمونين، و«ضرورة إيجاد آلية لتسديد هذه الشركات لقيمة الفواتير التي يتكبدها الضمان» نتيجة عدم التزام الشركات.
لم تردّ رئيسة اللجنة نادين الحبّال حتى الآن على الكتاب، وقد حاولت «الأخبار» التواصل معها ومع المعنيين في اللجنة، إلا أنها لم تلقَ جواباً.
من جهته، رئيس جمعية شركات الضمان في لبنان (شركات التأمين) ماكس زكار قال لـ«الأخبار» إنّ إحصاءات لجنة مراقبة هيئات الضمان تُظهر أن شركات التأمين سدّدت عامي 2016 و2017 نحو 53 مليون دولار تكاليف الأضرار الجسدية الناجمة عن حوادث السير، «إضافة الى مبالغ أخرى دُفعت تحت عقود الاستشفاء والتي لا يمكن تحديدها». ولفت الى أنه «مع غياب المراقبة من قبل الهيئات المختصّة، ثمة مركبات كثيرة تسير من دون عقود تأمين إلزامية للأضرار الجسدية، الأمر الذي يؤدي إلى تحمّل مؤسسات أخرى غير شركات التأمين الأعباء المالية للحوادث الجسدية». وشدّد على ضرورة تأكّد الضمان الاجتماعي مما إذا كانت المركبة المسؤولة عن الأضرار الجسدية التي تُحمّل الصندوق الكلفة لديها عقد تأمين أو لا.
مصادر الضمان الاجتماعي تردّ بأن المُشكلة الأساسية تكمن في عقود الاستشفاء التي يشير اليها زكار، «والتي لا تعترف بها شركات التأمين التي تعمد في كثير في الأحيان الى مفاوضة المريض لتدفيعه جزءاً من التكاليف». وتلفت إلى أن جزءاً كبيراً من التكاليف التي تنجم عن الأضرار الجسدية الناجمة عن تداعيات الحادث (عمليات جراحية لاحقة وغيرها من إجراءات الطبابة) لا تعترف بها شركات التأمين. وعمّا إذا كانت إدارة الضمان تتأكّد من أن المركبات مؤمّنة أو لا، تلفت المصادر الى أن محاضر قوى الأمن الداخلي ترفق عادة بأرقام بوالص التأمين، «أما المركبات التي لا تملك تأميناً، أو تلك المؤمّنة، فهي من مسؤولية المؤسسة الوطنية للضمان الإلزامي، فضلاً عن مسؤولية لجنة الرقابة على شركات الضمان».

الشركات تراقب نفسها
وهنا تكمن الإشكالية الأساسية، أي غياب الرقابة الفعلية على شركات التأمين. فالقوانين التي تحكم آلية الرقابة على هذه الشركات، بحسب مصادر متابعة، «صيغت بطريقة تحميها هي أولاً. إذ تنصّ المادة 8 من المرسوم 105 على إنشاء المؤسسة الوطنية للضمان الإلزامي لتولي مهمات الرقابة والإشراف، على أن تضم جميع شركات التأمين. بمعنى أن هذه المؤسسة مهمتها أن تراقب نفسها».



أرباح شركات التأمين
تشير تقديرات لجنة مراقبة هيئات الضمان الى ارتفاع عدد السيّارات المؤّمنة في لبنان من 0.8 إلى 1.2 مليون سيّارة بين عامي 2012 و2017، وارتفعت معها قيمة بوالص التأمين الإلزامية من 72.2 إلى 78.2 مليار ليرة لبنانية خلال الفترة نفسها.
ويُقدّر السعر الوسطي لبوليصة التأمين الإلزامي للسيارات السياحية الخصوصية بنحو 75 ألف ليرة (الحد الأدنى 65 ألف ليرة والحد الأقصى 90 ألف ليرة بحسب الجدول المصدق عليه من قبل مجلس ادارة المؤسسة الوطنية للضمان الالزامي عام 2003). ويبلغ السعر الوسطي لبوليصة تأمين سيارات التاكسي السياحية نحو 180 ألف ليرة، والسعر الوسطي لسيارات الباص الخاصة (حتى 11 راكباً) 250 ألفاً. أمّا بالنسبة لأسعار التأمين على المركبات العمومية والخاصة غير السيارات (فانات النقل والشاحنات العمومية والصهاريج المعدة لنقل المواد غير القابلة للاشتعال والجرافات وصهاريج البترول وغيرها)، فيترواح سعر البوليصة بين 90 دولارا وألف دولار.
وبحسب تقرير صادر قبل عامين عن قسم البحوث في مصرف SGBL نقلاً عن شركةBusiness Monitor International البريطانيّة المتخصّصة في بحوث السوق، وصلت أرباح شركات التأمين العاملة في لبنان إلى 162.4 مليون دولار. وتوقّع التقرير أن يحقّق القطاع زخماً أكبر خلال عام 2017، «نظراً إلى ارتفاع وتيرة نشاط الأقسام المختلفة من بوالص تأمين على الحياة والبوالص الأخرى التي تشمل تأمين السيارات والصحة وغيرها» (راجع 162 مليون دولار أرباح شركات التأمين في 2016 https://al-akhbar.com/Community/224776).
هذه الأرقام تطرح تساؤلات حول مدى التزام هذه الشركات بالواجبات المفروضة عليها بموجب القوانين، خصوصا في ظل «اتهامات» جدّية تسوقها الجهات الضامنة لشركات التأمين بالتهرّب والتملّص من مسؤولياتها.


الضمان الإلزامي
تنصّ المادة 2 من المرسوم الرقم 2180 (5/6/2009) حول تطبيق المادة 13 من المرسوم الإشتراعي 105 (30/6/1977) المُتعلّق بـ«الضمان الإلزامي للمسؤولية المدنية عن الأضرار الجسدية التي تُسبّبها المركبة البرّية للغير» على ما يأتي: «في حال حصول حادث سير نشأ عنه ضرر جسدي للغير تطبق الأحكام الآتية: في حال اشتراك مركبتين أو عدة مركبات بالحادث جميعها مضمون، تأخذ كل شركة ضمان على عاتقها تسديد نسبة من مجموع النفقات الاستشفائية تعادل ناتج هذا المجموع مقسوماً على عدد السيارات المشاركة في الحادث، وذلك بصورة مؤقتة، إما لحين حل النزاع حبياً مباشرة بين شركات الضمان (...) أو لحين صدور حكم نهائي عن المحاكم المختصة يحدد المسؤوليات». وإذا أدّى الحادث الناشئ عن مركبة واحدة مضمونة إلى إصابة أحد الأشخاص من الغير، «يتوجّب على الضامن دفع كامل النفقات الاستشفائية للمُستشفى لحين صدور قرار نهائي عن المحاكم المختصة يحدد المسؤوليات بشكل نهائي (...)».