قبل 4 سنوات، خرجت جمعية حماية المستهلك وبلدية الغبيري بتقرير تبينان فيه أن مياه الضاحية الجنوبية لمدينة بيروت ملوّثة بأنواع من البكتيريا قد تسبب «التهاب الكبد الوبائي». هذه النتيجة ظهرت من أحياء مختلفة. يومها، أخذت العينات من مناطق الغبيري، والشياح، والشويفات، والتيرو، وحي السلّم، وعين الدلبة، وبرج البراجنة، والصفير وبئر العبد، وأُخضعت لنوعين من الفحوصات: الفحص الجرثومي والفحص الكيميائي. الفحوصات أظهرت أن مصادر المياه، أي الينابيع والآبار، نظيفة، لكن شبكات التوزيع فيها مستويات خطيرة من الملوحة والبكتيريا المسبّبة للتسمم الكبدي والأمراض الوبائية السريعة الانتشار. تلك كانت نتائج «مياه الدولة». وسبب التلوّث هو أن الشبكات تختلط بمياه المجارير، سواء كان الأمر ناتجاً عن تعديات على شبكة التوزيع أو عن إهمال أدى إلى تقادم الشبكتين: المياه المنزلية والصرف الصحي.المشكلة ليست حصراً في شبكة نقل المياه. ففي موسم الشح، يعمد كثيرون إلى استخدام آلاف الآبار الارتوازية العشوائية، للاستحصال على المياه. وقبل 8 أشهر، تبين في منطقة الحدث، بعد الفحوصات على مياه مستخرجة من بئر ارتوازية تعود الى حضانة أطفال، أن المياه تحتوي على مادة البنزين. وفي حي آخر ضمن منطقة الحدث أجري الفحص على المياه أيضاً، وتبين أنها تحتوي على براز بشري نتيجة تسرب الصرف الصحي الى المياه الجوفية. كلفت وزارة الطاقة والمياه على اثر هذين التقريرين لجنة من المهندسين للكشف على الآبار الملوثة في الضاحية الجنوبية ككل، ورفعت تقريراً الى الوزير سيزار أبي خليل.
لا يبدو أن الكشف أخذ مفعولاً عملانياً من التصليحات وتجديد شبكات المياه، إذ تبين أن الحالة تكررت، هذه المرة من بوابة حارة حريك. أخذ المواطن حسام عطايا قبل أسبوع عينةً من المياه التي يستخدمها في منزله الى مختبرات تحاليل المياه التابعة لوزارة الزراعة، وتبين أنها تحتوي على الجراثيم الهوائية وجرثومة الـ«إيشريشيا كولي» التي يعود مصدرها الى البراز البشري أو الحيواني. هذه الحالة مع حالات أخرى تحدث عنها بعض المواطنين على صفحات التواصل الاجتماعي، تبين أن انتشارها يتعدى حارة حريك، إذ وصلت الشكاوى من الرويس وبرج البراجنة وصولاً الى بيروت.
السبب الأول لتلوث المياه على الساحل هو وصول مياه البحر إلى الآبار الارتوازية


مصادر المياه المنزلية ثلاثة: «مياه الدولة» التي تصل مباشرة الى خزانات المواطنين، الآبار الاتوازية العشوائية، والصهاريج الخاصة. الأكثر عرضة للتلوث هي مياه الآبار. فمن جهة، ثمة فوضى وتقادم أصابا شبكة الصرف الصحي، ما يجعل بعضها يصب في المياه الجوفية السطحية. لكن السبب الاول لتلوث الآبار الارتوازية في المناطق الساحلية، هو مياه البحر. وبحسب وزير الطاقة والمياه، فإن حفر الآبار بصورة غير منظمة خلال الحرب الأهلية وما بعدها، أدى إلى استهلاك جزء كبير من المياه الجوفية، وخاصة تلك الموجودة في طبقات قريبة من سطح الأرض. ونتيجة تناقصها، دخلت مياه البحر إليها. ومياه البحر قرب الشاطئ، قبالة الضاحية الجنوبية وبيروت، ملوّثة إما بسبب الصرف الصحي، أو بسبب النفايات. وهذا ما يفسر تلوث مياه البئر الارتوازية وارتفاع نسبة ملوحتها.
وبحسب أبي خليل، تحاول الوزارة تجديد المياه الجوفية، من خلال إعادة صب مياه الأمطار فيها، لكن كثرة الآبار الارتوازية العشوائية، تؤدي إلى استمرار تضاؤل المياه الجوفية «السطحية» (أي القريبة من سطح الأرض). وتحدّث الوزير عن وجود مشروع لتغيير شبكة المياه في الضاحية، لمنع تلوّث المياه أثناء نقلها.
رئيس مصلحة مياه بيروت وجبل لبنان جان جبران أحال الموضوع على مستشاره التقني طوني زغبي الذي أكد أن منطقة حارة حريك والمناطق المجاورة لها تتغذى من خزان مياه الحازمية الذي تصبّ فيه مياه نبع الديشونية (يحتوي على ٦ آبار)، وتصبّ فيه أيضاً مياه محطة الحدث. يرى زغبي أن المشكلة محلية مناطقية بحت، إذ إنه «لو كانت المشكلة في المياه من المصدر، لكانت قد شملت مناطق عدة»، فضلاً عن أنه «إذا ما أردنا فحص المياه، فيجب أن يتم فحصها من المصدر». على هذا الأساس، توجهت مجموعة من المصلحة يرأسها زغبي، صباح أمس، وتم أخذ عينات من «مياه الدولة» التي تصل إلى الحي المشكو من تلوث المياه فيه، ومياه البئر الارتوازية، على أن يتم الكشف اليوم عن النتائج، وعلى أساسها تتّخذ الاجراءات.
خلاصة الأمر أن الأزمة طويلة. الدولة عاجزة عن إيصال المياه بانتظام إلى المنازل، وخاصة في موسم الشح. وتؤكد وزارة الطاقة أن الحل الوحيد لأزمة انقطاع المياه في نهاية الصيف هو بإقامة سدود، رغم وجود انتقادات كثيرة لهذا الخيار، سواء من الناحية البيئة، أو لجهة عدم ضمان تحوّل البحيرات الاصطناعية إلى بؤر للتلوث، كما في بحيرة القرعون، أو ربطاً بظاهرة الاحتباس الحراري وانخفاض معدل المتساقطات. وإلى أن تحل الأزمة المتداخلة (إيجاد مصادر دائمة للمياه، وحل أزمة تلوث مياه البحر، وكارثة الآبار العشوائية، وضمان وجود شبكة آمنة لنقل المياه، وترشيد استهلاك المياه عبر تغيير نمط استخدامها وتركيب عدادات...) سيبقى أمام المواطنين في بيروت وضواحيها وجزء كبير من المناطق الساحلية ثلاثة خيارات، هي بمثابة قضاء وقدر لا مفر منهما: اللجوء إلى تنقية المياه في خزاناتهم وتحمّل كلفة ذلك (تركيب فلاتر)، الخضوع لـ«مافيات السيترنات» التي تحتكر المياه النظيفة (نسبياً) وتتحكّم في أسعارها، أو القبول بواقع كارثي، يتمثّل في وجود براز بشري وحيواني في مياه منازلهم!