في كل مرة تضرب السيول منطقة ما، كما في بلدة راس بعلبك الأسبوع الماضي، نعود إلى السؤال نفسه: لماذا وكيف وما الذي كان يجب فعله لتفادي مثل هذه الكوارث؟المتعمّق في طبيعة هذه الظواهر يعرف أن معالجتها ممكنة، وكذلك إمكانية تجنّبها والتخفيف من آثارها المدمرة. صحيح أن هذه الظواهر تصنّف «طبيعية»، إلا أن تدخلات إنسانية، مباشرة أو غير مباشرة، تزيد من حجمها وحدّتها. فهل حان الوقت لمحاسبة جدية وعميقة كي لا تتكرر، في ظل توقعات علمية مؤكدة بظواهر مناخية أكثر تطرفاً لم تعرفها البشرية في التاريخ الحديث؟
أول المبادئ المفترض اتباعها لتحديد المسؤوليات، هو معرفة طبيعة هذه الظاهرة وأسبابها الحقيقية، وهل هي ناجمة عن تغيرات في المناخ أم عن تغيرات على الأرض، أم (وهو الأصح) عن الاثنين معاً؟
في ما يتعلق بالأرض، المعادلة واضحة: نمارس كل أنواع القطع والرعي الجائر، فنخفّف من الغطاء النباتي. وكلما قلّت النباتات والأشجار التي تحمي التربة من الانجرافات تحصل هذه الانجرافات. وكلما زادت الأمطار غزارةً، ولم تجد ما يستوعبها، من تربة أو من طبيعة صخرية عالية النفاذية، تسيل المتساقطات بسرعة وتسبّب سيولاً. وكلما جرف بعض «المستثمرين» الصخور وطحنوها بالمقالع والكسارات وغيَّروا معالم الجبال من دون دراسة ومن دون إعادة تجليل وتتريب وتحريج... نُسهم في زيادة مثل هذه الكوارث.
انطلاقاً من ذلك كله، يفترض أن تعود الحلول إلى الأصل، قبل البحث في تفقّد المجاري وحمايتها، وقبل البحث في التعويضات كالعادة، من دون البحث العميق في تحديد الأسباب والمسؤوليات.

اللزّاب المنقذ
دراسات كثيرة أُجريت تاريخياً حول هذه الظاهرة تؤكّد كل ما ذكرنا. إلا أن بعض المستثمرين في مشاريع كبيرة، كالسدود، كانوا حاضرين دائماً لتشويه هذه الدراسات بهدف الاستثمار بأثمان عالية، ما كان يعوق هذه الحلول. الكثير من الدراسات حول هذه الظاهرة أجرتها الأمم المتحدة التي نفّذت مشاريع لمواجهتها، كحفر الخنادق وإنشاء برك صغيرة في بعض المواقع الجردية لعرقلة السيول والتخفيف من تدفقها، إضافة إلى التوصيات بإعادة تشجير المناطق الجرداء وحمايتها من الرعي الجائر والقطع. وقد تطورت هذه الدراسات من التشجير العشوائي والفولكلوري لأي بديل متوافر من الشتول، إلى التعمق أكثر بضرورة إعادة التشجير بالأشجار التي كانت تنمو أصلاً في هذه المناطق، كشجرة اللزاب المقاومة للتغيرات المناخية، والتي تُسهم في حفظ التربة، وتتحمل العواصف الثلجية ودرجات الحرارة العالية والجفاف. وهذا ما كان يجب أن يؤخذ بالاعتبار لدى قطع هذه الأشجار وعدم التشدد في معاقبة الفاعلين!

تغير المناخ وتغيير السياسات
قضية تغير المناخ ظاهرة عالمية، وأقل السيناريوهات تشاؤماً يصف انعكاساتها بـ«الكارثية». وتؤكد الدراسات أن أكثر من 90 في المئة من أسباب هذه الظاهرة إنساني وليس طبيعياً. فالإنسان بسبب نشاطه الإنتاجي والاقتصادي والاستهلاكي يسبّب انبعاثات أدت إلى نشوء ظاهرة الاحتباس الحراري وزيادة حرارة الأرض وتغير المناخ العالمي. ويتظهّر هذا التغيّر في ذوبان الجليد في المناطق المتجمدة وارتفاع منسوب مياه المحيطات وغمر مياهها جزراً وشواطئ دول... والتسبب بكوارث مناخية كالعواصف والأعاصير والفيضانات والأمطار الغزيرة و«انزياح الفصول» (كأن تمطر صيفاً) و«تطرف في الظواهر المناخية» (كأن تهطل في ساعة متساقطات كانت تهطل في أسبوع مثلاً). إضافة إلى تراجع نسب المتساقطات في مناطق وزيادتها في مناطق أخرى، وانخفاض المتساقطات الثلجية أو ذوبانها بسرعة، كما باتت الحال في لبنان، ما يعني انخفاضاً حاداً في نسب التخزين الجوفي ومواجهة أزمة نقص في المياه في فصول الشحائح. وليست خافية التأثيرات السلبية لهذه الظواهر على قطاعات أساسية مثل الزراعة والسياحة… ما يتطلب وضع استراتيجيات وسياسات جديدة لمقاربة مسألة تغير المناخ، وأخذها بالاعتبار لدى وضع سياسات لكل القطاعات، ولا سيما قطاعا الطاقة والمياه.
المقالع والكسارات التي تغيّر معالم الجبال من دون دراسة تُسهم في زيادة مثل هذه الكوارث


النتيجة أنه لمعالجة أزمات السيول المتوقعة بأشكال أكثر تطرفاً مما شهدناه حتى الآن، يفترض وضع استراتيجية لمواجهة تغير المناخ، قوامها «سياسات للتخفيف» من هذه الظاهرة الخطيرة نفصّلها لاحقاً، و«سياسات للتكيّف» معها، كإعادة التشجير ووضع خطط لحفظ الطاقة والمياه وتغيير أنماط بعض الزراعات ووضع حواجز طبيعية لسيلان المياه في الأماكن المعرّضة للسيول.

العمل المحلي
والكلام في الاستراتيجيات وتغيير السياسات لا يعفي من العمل المحلي وإعادة النظر في بعض التشريعات لناحية الفصل بين السلطات وتحديد المسؤوليات، ولا سيما بين وزارتي الطاقة والمياه والأشغال، وبين السلطات المحلية (البلديات). فمجاري السيول والأنهار باتت معروفة في بعض الأماكن، ويفترض بداية حمايتها من التعديات على مجراها وعدم التساهل مع المعتدين عليها، سواء الكبار من أصحاب المشاريع المسماة «سياحية» وأصحاب المقالع والكسارات المرامل، أو من صغار المعتدين بالمشاريع الصغيرة والشخصية. بعدها يأتي تنظيف المجاري وإنشاء جدران الدعم حيث لزم الأمر، مع التشدد في المراقبة المحلية والمركزية على حسن التنفيذ. بالاضافة ايضا الى دور وزارة البيئة (المغيب بسبب ضعف الوزراء وليس في قلة الصلاحيات والموازنات كما يتم الادعاء دائما) في وضع الاستراتيجيات العامة والخاصة في كل قطاع، لتجنب ما هو أعظم.



الشجرة الدهرية


اللزاب شجر صمغي معمَّر ينمو في السلسلة الشرقية على ارتفاع 1400م إلى 2800م، في أماكن لا تستطيع الأشجار الصمغية الأخرى التأقلم مع ظروفها البيئية القاسية من جفاف وجليد وتربة صخرية سطحية.
تاريخياً، لم تتحمس معظم الجمعيات والمنظمات المحلية والدولية لاعادة التشجير باللزاب لصعوبة انبات هذه الشجرة التي تتكاثر طبيعياً من خلال بعض القوارض والطيور (الكيخن) التي تأكل بذورها وتخمّرها في أمعائها قل أن تتخلص منها، ولأنها تحتاج نحو 500 عام لتتخذ شكلاً كاملاً، فيما يحتاج الزيتون أو الصنوبر من 10 إلى 15 عاماً، والأرز من 40 إلى 50 سنة. رغم ذلك، نجح بعض المناضلين الجديين في مشاريع اعادة التحريج بايجاد طرق لانباتها.