آب الماضي، تزوج سليمان كاسباتيان مدنياً. لم يفعلها، كما الكثيرون، هناك في البلاد البعيدة. بقي على أرض الشوف وتزوج. تسلّح بانتصارين. أولهما شطب الإشارة إلى مذهبه في سجل قيده الذي يخوله الزواج مدنياً على أرضه استناداً إلى قرار المفوض السامي الفرنسي 60 ل. ر. من عام 1936 الذي ينص «على أن من لا ينتمي إلى طائفة ما، يخضع في أحواله الشخصية للقانون المدني». وثانيهما «انتصار» نضال درويش وخلود سكرية، الشابين اللذين نجحا في تسجيل أول عقد زواج مدني لبناني رسمياً في سجلات المديرية العامة للاحوال الشخصية في وزارة الداخلية والبلديات.
بعد «العسل»، حمل الشاب أوراقه لتسجيل زواجه. في باله أن «الإجراءات لن تستغرق وقتاً طويلاً، خصوصاً بعدما صار الزواج المدني مع نضال وخلود واقعاً ومن بعدهما شذا وطوني». لكن، ما في البال لا يشبه أبداً ما يحصل على أرض الواقع، وتحديداً في الدوائر الرسمية. فبعد ستة أشهر على تقديم ملفه، لم يفرح بانتصاره بعد. المديرية العامة للأحوال الشخصية لا تزال في طور دراسة الملف واستكماله، رغم أنها لم «تطلب مني ولا أي ورقة». وفي آخر زيارة للمديرية «قالوا لي: تعال ع السنة الجديدة».
حلّت السنة الجديدة، ولا يزال كاسباتيان بلا وثيقة رسمية من الدولة اللبنانية تثبت زواجه المدني، رغم أنه من حقه ذلك «بحسب المادة 21 من القرار 60 ل. ر، التي تنص على أنه يجب على مأمور النفوس أن يدوّن عقود الزواج في مهلة أقصاها أربع وعشرين ساعة»، بحسب الباحث القانوني طلال الحسيني. ولئن كان مفهوماً «مماطلة وزارة الداخلية لتسجيل عقد زواج نضال وخلود لكونه العقد الأول من نوعه في لبنان، إلا أنه لم تعد مبررة الآن المماطلة في تسجيل الزيجات التالية». لكن، من يلتزم بالمواقيت هنا؟ ولمَ هذه المماطلة في عقود زواج لم تعد سابقة؟ ومن المسؤول عن بقاء كاسباتيان وزوجته بلا وثيقة رسمية تثبت زواجهما وتالياً بلا بيان قيد عائلي؟ وماذا عن طفلهما المنتظر قدومه في غضون الأشهر الثلاثة المقبلة؟ ماذا لو لم تسجل الداخلية، هل تبقى الشرعية القانونية للابن معلقة؟ والأهم من كل ذلك، ما هي التحقيقات التي تقوم بها الداخلية في ملفات هؤلاء؟ وهل يستوجب الأمر في كل مرة القيام بمعركة كي نتزوج مدنياً على أرضنا؟ تماماً كما حصل مع أصحاب العقدين اللذين سجّلا في الأحوال الشخصية؟
فاطمة الشابة الجنوبية التي تزوجت زواجاً مدنياً هي الأخرى تنتظر منذ شهرين بتّ ملفها «العالق هناك في بيروت». في بالها هي أنها استكملت كل شيء، كما أن الداخلية التي يقبع فيها الملف منذ شهر ونيف «لم تطلب أوراقاً إضافية». فما الذي يحصل؟
في الداخلية، وبحسب سوزان خوري، رئيسة مديرية الأحوال الشخصية، لا شيء يحتاج إلى معركة. والدليل؟ «تسجيل زواجين واستكمال معطيات أربعة ملفات أخرى موجودة وفق القانون، لنتأكد من صحة معلوماتها، وهذا كل ما في الأمر». إذاً، «النية سليمة»، تقول خوري. وتتابع «نحن وإن كنا نؤيد الزواج المدني ونتمنى أن يصبح هناك قانون مدني للأحوال الشخصية، إلا أن الواجب يفرض علينا أن ندقق في الأوراق، فيمكن أن يكون هناك نقص فيها، ولا يعني أنه إذا تزوج مدنياً نحن نسارع إلى التسجيل».
هذا ما تقوله خوري، وما يؤكده وزير الداخلية والبلديات مروان شربل. فصفاء النية مشترك، ولكن «ضمن الأصول». والأصول تفرض «دراسة الملفات، فربما هناك نقص فيها، على الأقل أريد التأكد من أن الزواج مدني بحت، مش مدني بالظاهر وديني بالجيبة، وهذا ما حصل مع نضال وخلود، وفي شي اسمو قانون بدنا نطبقو». ولكن، هل المماطلة هي باسم القانون أيضاً؟ يرفض شربل «هذا الحديث جملة وتفصيلاً. ليس هناك مماطلة، شو ما في غير معاملاتهم في الداخلية، هناك أكثر من 600 ألف معاملة، وهناك أسبقيات أيضاً، يعني مش ناطرين بس ملفاتهم».
إذاً، الأمور لا تعدو كونها روتينية. هذا في منطق الدولة. لكن، هذا أيضاً يدعونا إلى الحديث عن صلاحيات الوزارة ومديرية أحوالها الشخصية في تسجيل عقود الزواج، سواء أكانت مدنية أم دينية. في المبدأ، لا تملك هذه الوزارة أي صلاحية في هذا الأمر، سوى تسجيل البيانات. وبحسب الحسيني «الوزير ليس له علاقة سوى بإلزام الموظف بتدوين البيانات الموجودة في عقد الزواج، سواء أكان دينياً أم مدنياً». وعلى هذا الأساس «لا علاقة له بالمضمون، كل ما في الأمر هل البيانات منظمة حسب القانون؟ وهذا الشيء الذي نسميه الإجراء الشكلي. أما الاعتراض فليس من صلاحيات الداخلية، ويمكن المتضررين من عقد الزواج هذا أن يتقدموا بشكوى أمام القضاء، وهو الوحيد الذي يبتّ قانونية الزواج أو عدمه».
هذا في المبدأ. أما ما جرى إلى الآن فلا يبشر بالخير. نضال وخلود توسّلا معركة كي يسجلا زواجهما رسمياً في الأحوال الشخصية. معركة كي يطمئنا لـ«شرعية» غدي ابنهما. وفي آخر الانتصار، خرج وزير الداخلية ليقول إن الزواج «سابقة»، وليفرض شروطاً من مثل «عدم خروج الزوجين من طائفتيهما لأنه لا وجود للطائفة 19، بانتظار قانون مدني للأحوال الشخصية، حفاظاً على حقوقهما وحقوق أودلاهما». لكن، بما أن الشرط ساقط، بوجود قرار يستندان إليه في حقوقهما وحقوق أولادهما وهو القرار 60 ل. ر.، فقد حصل الزواج الثاني ولم يعد الزواج المدني «سابقة». لكن، حتى زواج شذا وطوني استوجب القيام بمعركة كي يسجل رسمياً في سجلات الأحوال الشخصية. واليوم، هناك عشر زيجات مدنية، عقد الكاتب بالعدل جوزف بشارة ثمانية منها. في الداخلية، هناك أربعة ملفات تدرس منذ وقت، وقد تستوجب هي الأخرى معارك، وفي الانتظار 6. لكن، هل يحتاج زواج مدني اختاره ثنائي على أرضه بدل أرض الغير إلى كل هذا النضال؟ ما المقصود من كل هذا؟ ثمة منحيان يمكن الانطلاق منهما، أوّلهما «أن الدولة مش بالعتها». وهذا يعني أنها «تتوسل تلك العراقيل كي لا يصبح هذا العقد عادياً على الأراضي اللبنانية، والمماطلة في دراسة الملف هي محاولة لكسب الوقت في هذا الأمر»، هذا ما يراه المحامي نزار صاغية. أما المنحى الآخر، وهو الأخطر برأي صاغية، «فهو التحقيق الذي تقوم به الدولة. فإن كانت لم تطلب أي أوراق إضافية إلى ملفات الأشخاص المتقدمين باعترافهم هم، فما تقوم به الدولة هو أنها نصبت نفسها رقيباً على معتقدات الناس، خصوصاً أن هؤلاء من شاطبي الإشارة إلى المذهب، وعلى هذا الأساس تقوم بتحقيق في معتقدات الناس ونياتهم». وهذا الأمر إن عنى شيئاً، فهو يعني «الاعتداء على الحرية الشخصية وحرية المعتقد، وهذا أخطر ما يمكن أن يحدث، وإلا فما الذي يبرر هذا الأمر؟»، يتابع صاغية. منحيان لا يبشران بالخير، فلا بقاء الزواج المدني سابقة في لبنان يفي المدنيين الطامحين إلى دولة مدنية حقوقهم ولا رقابة الدولة على معتقداتهم تبشر بالانتقال إلى حيث يطمح هؤلاء. وفي كلا الحالتين، الاعتداء حاصل على الحرية الشخصية.