على المدخل الشرقي، الرئيسي، لمدينة الهرمل ينتصب «قاموع» الهرمل فوق تلة تشرف على أراض جرداء شاسعة تحيط به. يبعد عن مدينة الهرمل مسافة ستة كيلومترات ويفصله عنها وادي العاصي ونهره. المعلم الأثري روماني بحسب الرواية الأقرب إلى التصديق لدى المؤرخين وعلماء الآثار، ويعتقد انه يعود الى ما بين القرنين الثاني والأول قبل الميلاد، هو أول ما يستقبل زوّار المدينة الواقعة في أقصى البقاع الشمالي. لكن قيمته التاريخية هذه لم تحل دون غرقه في إهمال مزمن شأنه شأن المدينة التي يحمل اسمها. إذ تحوّلت جدرانه جدارية لهوة الغرافيتي وللعابثين، فيما تحوّل محيطه ملتقى مشبوهاً للعشاق، يساعدهم على ذلك بعده عن الطريق العام.
ماهية القاموع لا تزال لغزاً لخبراء الآثار حتى الآن (حيدر قانصوه)

ماهية القاموع لا تزال لغزاً لخبراء الآثار حتى الآن، لكنه «مبدئياً معلم روماني» بحسب عالمة الآثار لور سلوم. وتضيف لـ«الأخبار»: «هناك شاهد وحيد يشبهه موجود في منطقة ربلة السورية». وأشارت الى أن مديرية الآثار أجرت حفرية في المعلم قبل ترميمه عام 2003، «ولم نكن متأكدين إن كان مدفناً أو شاهداً على شيء أو يمثل مملكة ما، لكن الحفريات لم تحلّ اللغز». ولفتت الى أن هذه النتيجة هي نفسها التي توصلت إليها البعثة الفرنسية التي حفرت في المعلم عام 1931، قبل أن ترممه بعدما كادت الزلازل وعوامل الزمن تطيح به.
عام 2007، وبعد مطالبات عديدة، عمدت وزارة الثقافة إلى تنظيف جدران المعلم وأقامت حوله سوراً حديدياً. لكن لم يطل الأمر قبل أن يعود «القاموع» إلى سيرته الأولى عرضة لاعتداءات العابثين.
رئيس بلدية الهرمل صبحي صقر أكّد لـ«الأخبار» ان المجلس البلدي عرض على مديرية الآثار التابعة لوزارة الثقافة إعادة تنظيف القاموع وإزالة الكتابات عنه، «لكنهم رفضوا لأن تنظيفه يحتاج الى مختصين يعملون تحت إشراف المديرية». وأضاف: «راسلنا المديرية أكثر من مرة طالبين منها إزالة الكتابات عن القاموع وإضاءته وتزفيت الطريق اليه وتشجير محيطه لتحويله الى نقطة جذب سياحية لهواة الآثار، ولكننا لم نتلقّ أي رد».
مديرية الآثار: لن نعيد تنظيف القاموع إلا بعد أن نضمن تأمين حمايته


المدير العام للآثار سركيس خوري، من جهته، أكّد لـ«الأخبار» أن تنظيف المواقع الأثرية «ليس بالأمر السهل. هذه عملية دقيقة ومكلفة تستخدم فيها تقنيات خاصة كالليزر ويقوم بها اختصاصيون، ولا تعني جلي الجدران كما يعتقد البعض. أحياناً قد يستغرق تنظيف مساحة بحجم كف اليد نهاراً بأكمله حتى لا نؤذي الحجر، ولئلا تؤدي العملية الى تآكل الطبقات الحجرية». وأشار الى أن المديرية «سبق أن أزالت الكتابات عن القاموع عام 2007. لكن التعديات ما لبثت أن عادت بعد فترة وجيزة. ولن نعيد الكرّة إلا بعد أن نضمن حلاً جذرياً لهذا الأمر». ولفت الى أن الاعتداءات طالت لوحة تعريفية بالمعلم التاريخي استخدمت هدفاً للرماية، كما كسر قفل السياج الذي بنته المديرية حول القاموع. ولماذا لا توضع كاميرات للمراقبة في الموقع؟ «لأنها هي الأخرى ستكون هدفاً لرصاص العابثين»، يجيب خوري.
الحل الجذري، بحسب المدير العام للآثار، هو «تأمين حماية أمنية وإقامة نقطة حراسة حول القاموع على مدار الساعة لأن الاعتداءات غالباً لا تجري في النهار». ولفت الى أن المديرية تدرك أهمية هذا المعلم، ولذلك عيّنت حارسين للموقع «يعملان على الدوام»، وهما «موظفان مهمتهما استقبال السياح وليسا عسكريين، وأقصى ما يمكنهما فعله إذا ما واجها أحداً الاتصال بالمديرية التي تتصل بدورها بالدرك». فيما يؤكد كثيرون من أهالي الهرمل أن الحارسين غالباً ما يغيبان عن الموقع. وقد عملت المديرية عام 2017، بالتعاون مع بلدية الهرمل، على تجهيز موقع قريب من القاموع لإقامة نقطة للدرك، لكن «مجهولين» حطّموا البيوت الجاهزة التي وُضعت في المكان.
يشدد خوري على أن «الأمر الأهم هو أن يعي المواطن قيمة هذه الصروح التاريخية وأهمية المحافظة عليها، لأن لا موظفين لدينا لحماية كل المناطق، وميزانية وزارة الثقافة لا تكفي لتنظيف وتعشيب المواقع السياحية في لبنان». ولفت الى أن مشاريع عديدة قدمت إلى المديرية للاستثمار في هذا المعلم، من بينها اقتراح للبلدية السابقة بإقامة مسرح مفتوح وبناء مدرجات في المكان، وقد «رفضت جميعها لأنها ليست في صالح الموقع، ولأنها لم تقرأ المعلم الأثري والطبيعة الجغرافية المحيطة به والتي ينبغي المحافظة عليها كما هي، وليس فتح طرقات وشق ساحات». وشدّد على أن «عليكم أن تفهموا ما هو القاموع وبعدها قدّموا مشروعاً يتجانس مع طبيعة هذا الموقع». لكن المديرية لا ترفض أي خطة لإقامة مهرجانات سياحية في المكان لتنشيط السياحة. يشير سركيس الى أن اتحاد بلديات الهرمل نظّم مهرجاناً في محيط القاموع عام 2011، «لكن التجربة لم تنجح لسببين: الأول أن الموقع ممر لتيار هوائي قوي مما لا تنفع معه مكبرات الصوت، والثاني أن مكبّاً عشوائياً للنفايات يقع على بعد مئات الأمتار منه. وقد أرسلت المديرية إلى محافظ بعلبك ــــ الهرمل كتابين حذرت فيهما من تحول المعلم شاهداً فوق مكبّ للقمامة».



برج مراقبة ودليل قوافل


تعود قصة بناء القاموع، بحسب بعض الروايات، إلى حوالى سنة 175 ق. م. في عهد الحاكم الروماني اليسندرو مانو، وكان يعرف باسم «هرم ايل» (اليسندرو)، ويُقال إن اسم الهرمل اشتق منه.
يبلغ ارتفاع الهرم نحو 26 متراً، أي 45 مدماكاً من الحجر الصخري. عرض الواجهة من الناحية السفلية 950 سنتيمتراً، وهو ينقسم الى ثلاثة اقسام: القسم السفلي يتألف من 11 مدماكاً يعلوها «كورنيش» على شكل خطوط أفقية متوازية الأضلاع تلتف حول الهرم، بارزة نحو 30 سنتيمتراً من الواجهة. ويحتوي هذا الجزء بجهاته الأربع على نقوش عن الصيد البري لأشخاص وغزلان تطاردها كلاب. الجزء الثاني يتألف من ثمانية مداميك، وتبرز من الواجهة أربعة أعمدة ملتصقة وبارزة نحو 15 سنتيمتراً عن بطن الهرم. أما الجزء الأعلى من الهرم فتبدأ قاعدته بشكل نصف دائري وتلتف أفقياً على جوانب الهرم، ومنه تنطلق قاعدة الهرم النهائية بحيث تشبه رأس المسلة، مما حمل البعض على الاعتقاد أن بناء الهرم متأثر بالحضارة الفرعونية خصوصاً أن روايات تاريخية تؤكد مرور رعمسيس الثاني في إحدى حملاته بهذه المنطقة. فيما يؤكد آخرون ان البناء روماني لكنه ذو طابع خاص ومميز عن الآثار الرومانية الأوروبية والآثار الرومانية الشرقية. وتذهب التفسيرات الى انه بني على هذه التلة بما يشبه برجاً للمراقبة تحوطا للجيوش الغازية، ودليلاً للقوافل التجارية والعسكرية التي كانت تصل من جبيل مروراً بقلعة فقرا وأفقا وقلعة بعلبك واللبوة ثم الهرمل وحمص ومملكة تدمر.
الواجهة الجنوبية للهرم تتجه مباشرة نحو مملكة بعلبك، والواجهة الشمالية نحو حمص ومملكة تدمر. أما الواجهة الغربية فنحو سلسلة الجبال التي تطل على البحر المتوسط، والواجهة الشرقية على سلسلة الجبال الشرقية التي تقع أسفلها سلسلة قنوات كانت تجرّ مياه العاصي الى مملكة تدمر. وتشير نقوش الغزلان الى أن السهول المحيطة به كانت تعج بالحيوانات ما يشير الى أنها كانت سهولاً خصبة.