"إن الحرية لن تكون إلا بإلغاء الدولة"
فلاديمير لينين

في الاسبوع الماضي اصدر الحزب الشيوعي الصيني تعميماً يمنع اعضاءه من الانخراط في طقوس وعادات تعتبر من "الخرافات الاقطاعية"، منها قراءة الطالع والتنجيم وغيرها، التي اخترقت حتى صفوف الحزب. يأتي هذا التعميم ضمن حملة التشدد الإيديولوجي والالتزام بالماركسية، التي يقودها الرئيس الصيني شي جين بينغ، والتي وصلت الى حد أن الدولة دمّرت تمثالاً ذهبياً ضخماً لمؤسس الدولة الشيوعية ماو تسي تونغ كان بعض الرأسماليين تجرّأوا على بنائه.
كان من المفترض ان تقوم الرأسمالية هي بإنهاء المعتقدات الاقطاعية وغيرها من المعتقدات التي تمنع الانسان من رؤية موقعه الحقيقي في العالم، ولكن الرأسمالية لم تفعل ذلك، ففي الولايات المتحدة اليوم يبلغ الايمان بالسحر والتنجيم و"نظريات المؤامرة" حداً عالياً. اكتشف ذلك، عرضاً، الفيزيائي الراحل كارل ساغان، عندما وصل الحديث بينه وبين سائق سيارة اجرة الى امور اعتقد ساغان أنها اصبحت من غياهب الماضي، ما دفعه الى كتابة "العلم كشمعة في الظلام" في 1995، ووثق فيه لسيطرة الفكر الغيبي على اميركا على الرغم كل التقدم العلمي التي شهدته في تاريخها.
اكثر من ذلك، فالراسمالية اليوم تنتج اساطيرها الذاتية لتتماهى مع مصالحها. واهم اسطورة تم توليفها في سبعينيات القرن الماضي لبثها في عقول الناس كانت "شيطنة" الدولة من اجل منع تدخلها كأداة لإعادة التوزيع الاقتصادي وكمنظم للعمليات الاقتصادية، ومنها الاسواق. كانت "الاسطورة الرأسمالية" قوية الى درجة انها أنست الناس ماضي الرأسمالية نفسها، فالقليلون يعلمون اليوم السياق التاريخي لتدخل الدولة وكيف ان هذا التدخل أنقذ الرأسمالية من نهاية محتومة في ثلاثينيات القرن الماضي. صحيح انه كان هناك دائماً حفنة من الاقتصاديين المتطرفين "سوقيا" الذين عارضوا أي تدخل للدولة، الا ان اكثرية الرأسماليين والاقتصاديين شجعوا على دور للدولة في الاقتصاد الرأسمالي، لأنه كان هناك تماهٍ لدور الدولة مع ارباح الرأسمال. وانتهى هذا التماهي في اوائل السبعينيات عندما بدأت الكينزية تهدد ارباح رأس المال وسيطرته. اما اليوم فإن الرأسمالية المالية، وإن احتاجت للدولة لتنقذها بعيد ازمة 2008، سرعان ما تخلت عنها لأنها تعلم ان استمرارية ربحها هو بالحفاظ على البطالة والتضخم المنخفض وعدم تدخل الدولة. إن دور الدولة إذاً مرتبط بالسياق التاريخي المحدد، وقد تقوى وتضعف الدولة حسب موازين القوى. فيما رأى لينين حاجة الى نهايتها لتحقيق الحرية الانسانية والعلاقات الاجتماعية الخالية من القهر والعنف.
أكثر التكنولوجيات الحديثة كانت نتاج تدخل الدولة

على صعيد آخر، يظن الكثيرون ان التكنولوجيا الحديثة هي من نسج رواد الاعمال المخاطرين والأسواق الحرة وراسماليي المبادرة. هذا صحيح جزئياً، اذ ان احدى خواص الرأسمالية هي قدرتها على تشجيع الخلق والابتكار. المفارقة ان اول من ركز على هذا الدور للراسمالية، لم يكن سميث ولا ريكاردو، ولا أي من آباء الفكر الاقتصادي الرأسمالي، بل كان ماركس نفسه، الذي أراد في النهاية أن يبعث بالراسمالية الى مقبرتها النهائية. ماركس، في فكره الديالكتيكي الرائع، رأى الجانب المضيء للرأسمالية، على الرغم من قباحتها في تلك الفترة حسب وصفه: "الرأسمال يأتي والدم يقطر من كل مسام جسده" .
القصة الكاملة للتكنولوجيا يجب ان تتضمن الدولة في فصولها الرئيسية، وهنا لا أتحدث فقط عن تكنولوجيا سبر الفضاء والتكنولوجيا العسكرية أو الطائرات أو حتى الانترنت التي بنتها الحكومة الاميركية (كان اول نموذج للانترنت بنته الحكومة الاشتراكية في التشيلي في اوائل السبعينيات ودمره الفاشيون بعد الانقلاب العسكري)، بل عن السلع التكنولوجية الاستهلاكية. تقول ماريانا مازوكاتو، في كتابها "الدولة الريادية: تفكيك الاساطير حول القطاع العام والقطاع الخاص"، ان اكثر التكنولوجيات الحديثة كانت نتاج تدخل الدولة، ليس فقط من خلال توفير البنى التحتية، وإنما في الابحاث الاساسية والتطبيقية والدعم المالي للمؤسسات الناشئة واختراع أمور كالشاشة اللمسية والـ GPS التي هي اساس تكنولوجيا الهواتف الذكية.
في لبنان، يردد البعض ان الدولة لا مكان لها في الاقتصاد الحر. والسؤال، هل هم غافلون عن كل ما تقدم؟ طبعاً فهم لا يقرأون، ولكن الامر اعمق من ذلك، فهو مرتبط بدرجة تطور الرأسمالية اللبنانية ومدى تماهي مصالحها مع تدخل الدولة على الطريقة الكينزية. ان المقولة بالمبدأ تعكس الفكر الذي لا يرى في الاقتصاد الا البيع والشراء والسمسرة في صفقات التبادل التجارية والمالية والعقارية والفوائد والريع، وبالتالي الدولة لا مكان لها في هذه الراسمالية، إلا طبعاً عندما اشتركت ضمن هذه "اللعبة الريعية" عبر تراكم الفوائد من خلال استدانتها من المصارف لدعم نظام التحاصص الطائفي. بالتالي في المضمون، فإن البورجوازية ليس لديها مانع من تدخل الدولة عبر الدين العام لأنها إحدى وسائل انعاشها كطبقة، ما يجعل الدولة الطائفية والراسمالية الريعية وجهان لعملة واحدة.
وفي "الاساطير" يمكن ان نسأل أيضاً، هل هي صدفة ان منسوب الايمان بالتنجيم ارتفع في لبنان، حتى عند المتعلمين، مع تجذر الرأسمالية الريعية؟ الجواب: لا ليست صدفة، إذ أن مداخيل رأس المال في لبنان، التي لا تتأتى من التكنولوجيا أو من صنع الأشياء، هي كالسحر او كالخيمياء التي تسعى لتحويل المعادن ذهباً، او كما قال ماركس وكأن "المال يولد المال". بعدما فقد اللبناني بعد الحرب قدرته على التحكم بمصيره، وهو يرى من حوله كيف يولد المال والمتمولون والاغنياء والزعماء من دون عمل، لم يبق له إلا "الخرافات الاقطاعية"، لعله يجد ضالته. إذاً، التنجيم والرأسمالية اللبنانية هما واحد، كما أن الطائفية والرأسمالية اللبنانية هما واحد. هذا الثالوث غير المقدس هو الذي يحكم لبنان وعقوله، مهما علا منسوب التعلم، ومهما بلغت أشكال التطور في السلع المستعرضة وفي الاسواق البراقة وفي ببغاءيات أَلسِنة أبنائه الأجنبية. الرأسمال في لبنان لا يأتي يقطر دماً فقط، بل أيضاً يأتي يقطر جهلاً وتخلفاً من كل مسامه الحية-الميتة.