مكانة هوفلين لا يمكن اختصارها. بعض الخريجين تحضره صورة الحرم الجامعي في «فيلدات زيتيّة» تذكّر بميليشيات الحرب، ارتداها طلاب قواتيون متحمّسون في سنواتهم الجامعية الأولى، فيما يراه البعض الآخر المكان الذي مورست على أبوابه أشكال قمعيّة مختلفة على طلاب كانوا يعتصمون ضدّ الوجود السوري في لبنان.
في الحالين، يمكن اعتبار هذا الحرم الجامعيّ مكاناً مصغّراً عن لبنان لناحية تنوّعه، وحقلاً وخصباً لم ينفصل عما يدور خارجه، استعرت فيه الخلافات نفسها التي شهدها البلد في تاريخه الحديث.
على نحو أكثر دقّة، لم تجلس اليسوعية على مقاعد التبديل حتى انتهاء المباريات الوطنية، بل دخلت اللعبة وأوجدت لنفسها طابعاً نضالياً ــ سجالياً، على مستويات عديدة. فلنبدأ العد: اليمين المسيحي في تقوقعه. بشير والانقسام حول صورته في هوفلين (السياسية وتلك المعلّقة في الجامعة). الطبقيّة في الجامعات الخاصة. النضال ضدّ الوجود السوري. المشاركة الطالبية في مظاهرات 8 و14 آذار. وأخيراً: النظرة لطلاب حزب الله وحركة امل في الجامعة. المستويات المذكورة أدت إلى ما أدت إليه. وكانت مادة دسمة للتغطيات الإعلامية. التوتر له أسبابه الجغرافية أيضاً. تقع الجامعة في مونو، ويحدّها الخندق الغميق. تقع بين شباب لا يهمّه سوى السهر ويتقن الفرنسيّة في مونو، وشباب يهشّمه الفقر والتهميش في الخندق الغميق، أكّدت «رو هوفلين» أنها أعمق من عراك، وأبعد من صورة. رغم كل شيء استطاع الطلاب والجيران العيش معاً، بعد زوال خطوط التماس. يجب أن لا ننسى أن الجامعة شُيّدت أساساً في مناطق خاضعة للتقسيم السابق إبان الحرب.
لم تغب اليسوعية -هوفلين تحديداً- عن الخطاب السياسي، بل أصبحت من صلبه في بداية كلّ عام جامعيّ حيث تجرى الانتخابات الطالبية. على سبيل المثال، وإثر إشكال وقع في تشرين الثاني 2013 في الجامعة سارع النائب سامي الجميّل للقول إن «هذه جامعة بشير الجميل التي خرّجت مقاومين للدفاع عن لبنان، تتحدوننا في هذا المكان بالذات؟». فيما سأل رئيس حزب القوات سمير جعجع القوى الأمنية إن كانت عاجزة عن رد «نحو 150 عاطلاً من العمل وعن كل شيء ليغادروا إلى بيوتهم؟». أما النائب حسن فضل الله فاعتبر أن الخطاب تحريضي يتناول طلاباً على أنهم رعاع فيما هم نخبة اللبنانيين ورد على اعتبار اليسوعية جامعة بشير «إذا أرادت الجامعة تغيير اسمها عندها يقرر الطلاب استمرارهم بالتعلم فيها أو تركها». إلّا أن الكوب لم ينضب ونصفه ملآن. اليسوعية التي تغلي ديموغرافياً، كانت منذ 1875 تؤسس أجيالاً مثقفة ومنفتحة للبنان أفضل. يجب أن لا ننسى أنها صرح أكاديمي.

قبل التفاهم كانت نظرتي كمسيحي لطلاب المقاومة مختلفة، خصوصاً أننا كنا خارج الحكم لمدة 15 عاماً

والحال أن من شاركوا في مظاهرتي آذار 2005 من طلابها، بقوا إلى اليوم - رغم التحالفات السياسية المستجدة - على ما هم عليه من تحالفات. القوات والكتائب والاشتراكي والمستقبل، في وجه حركة أمل وحزب الله والقومي السوري ومعهم التيار الوطني الحر للمرة الأولى منذ الانتخابات الطالبية لعام 2005-2006. حتى أن تحالف التيار مع حلف المقاومة سبق إعلان ورقة التفاهم بين حزب الله والتيار في شباط 2006 وكان التحالف أحد بشائر هذا الإعلان. في المقابل، لم يتفّق فيها العونيون والقواتيون يوماً، حتى بعد اتفاق معراب، سوى مرة واحدة بوجه حركة مستقلة اسمها «تري دونيون»، التي استطاعت تحقيق نتائج انتخابية بحصدها أصواتاً من الطرفين (ربما يحصل الأمر نفسه هذا العام في كليّة الطب لمواجهة المستقلين).
ما تنتجه المنابر السياسية من خطاب ظرفي على إثر إشكال، يختلف عما تنتجه سنوات الخبرة والنضال لشباب حزبيين لطالما كانت «أيديهم في النار»، قبل عام 2005 وبعده. أولئك الشباب مارسوا «شعائرهم» داخل اليسوعية، في حرم العلوم الاجتماعية - هوفلين تحديداً بكلياته الأبرز (إدارة الأعمال، علوم سياسية، حقوق، تأمين)، تحوّلوا إلى رموز طالبية يُجمع على أسمائهم كثر. يتحدّثون لـ«الأخبار»، عما علق في ذاكرتهم من ذلك النضال. ويروون بعد مرور «دزينة» من السنين مذكراتهم مع القمع وما تُغيّره الجامعة في نفس الطالب حين يصبح عاملاً وفي سنّ أنضج.

نديم يزبك عن «القوات اللبنانية»
(ماجستير في إدارة الأعمال عام 2008)


عام 2003 شارك في تظاهرة أقيمت تحت عنوان «ضد الهجرة»، لكنها فعلياً كانت مظاهرة سياسية بامتياز ضد الوجود السوري. لم يكن ينتمي يومها رسمياً إلى «القوات» لكنّه اعتُقل قيد التحقيق حيث تمكّن من التعرف إلى معتقلين كتائبيين وقواتيين. سأله المحقق عن انتمائه فأجاب «كل ما هو ضد الوجود السوري» فكتب في محضر التحقيق عنه: «لقاء قرنة شهوان». بعد أشهر، في بداية 2004 التحق بخلية «القوات». وكان في عامه الجامعي الثاني. في العام التالي أصبح مندوباً للقوات في كلية إدارة الأعمال، وفي 2006 تسلّم إدارة الخلية في هوفلين. في 2009 تسلّم دائرة الجامعات الفرنكوفونية في الحزب. في 2012 أصبح رئيساً لمصلحة طلاب القوات لسنتين.
اختار يزبك الدخول إلى هوفلين «لأنها مكان يشبهه ويمكن القيام بنضال سياسيّ فيه». ليس هذا السبب الوحيد: «شاهدت صورة بشير وسمعت عن رمزية هوفلين من المدرسة». شارك في تظاهرات 2005، التي تلت إعلان قرنة شهوان، تحت اسم «اليسوعيّة». واجه مع رفاقه الجيش اللبناني أكثر من مرة. قبل عام 2005 «كان الجيش يكسّرنا». بعد 2005 «أصبح الجيش أكثر ليناً معنا أقلّه لم يستعمل أعقاب البنادق».
في السابق كان يسوّق لليسوعية «على أنها جامعة اليمين المسيحي وله الكلمة الفصل فيها». اليوم تبدّلت طريقة تعبيره: «إثر اغتيال رفيق الحريري كانت النظرة سلبية تجاه حزب الله وطلابه الذين كانوا في حالة انزواء»، اليوم أصبح نديم يزبك أكثر هدوءاً لأنه «عاش عمر المراهقة السياسي كما يجب». أما بالنسبة لطلاب حزب الله وحركة أمل فكان يعتبرهم «العدو الذي يريد تغيير هوية الجامعة». لكن نظرته هذه تغيّرت اليوم «نحن وهم تحسّنّا عن السابق». التواصل تحسّن «خصوصاً مع طلاب الحركة». يعترف يزبك أن حزب الله يشكّل «البلوك الانتخابي الثاني فيها بعد القوات». الإيجابي بالنسبة له هو أن «طلاب أمل وحزب الله تغيّروا عما كانوا عليه أيام كنا طلاباً، ونحن تغيّرنا، كانوا راديكاليين واليوم أصبحوا أكثر ليناً. إنه جهد يحسب لهم، حتى من كانوا على أيامي حزب الله ليسوا هم نفسهم».
نديم يعمل اليوم بصفة استشارية في «القوات اللبنانية»: «عليّ أن أعطي وقتاً لعائلتي، خصوصاً أن طفلتي كانت كل أسبوعين تريد أن تتعرف عليّ من جديد».

طالب من «حزب الله»
(ماجستير في إدارة الأعمال)


رفض ذكر اسمه. تخلّى عن نشاطه الحزبي بعد تخرجه. تسلّم ملف الانتخابات الطالبية في «حزب الله» يوم كان طالباً. دخل اليسوعية رغم أنها «جامعة يمينية» لأنها «قوية خصوصاً أنني تلميذ ليسيه فرنسي». والغريب أنه في الحزب ويعترض على «اليمين». اعتُبر في الفترة الأولى دخيلاً على الجامعة من قبل الأحزاب المسيحية: «كانوا يقولون لديك جامعات في مناطقك لم لا تتسجل فيها». يأسف لأن الجامعة تضمّ طلاباً لا يعرفون أحداً من الدين الآخر. اعتقدوا «أننا سنقيم جامعة إسلامية، شباب إذا تخطّى نهر الكلب بيكون منيح». الجيل الصاعد ليس مختلفاً إذ «لديه نفس الذهنية». لكن «القوات عملوا من أجل التغيير، أقله لناحية المظهر، حيث خلعوا بعد 2007 الفيلد العسكري الذي كانوا يرتدونه في الجامعة عام 2005». اشتغلوا لناحية التسويق ثمة من ساعدهم في ذلك. القانون النسبي الذي استحدثته الإدارة أثر في النتائج «الهدف منه كسر التحالفات واللون الواحد، القانون خدم القوات». لا يمكن «لجامعة معروف انتماؤها أن تكون من ميلة حزب الله»، خصوصاً «أن صورة بشير لا تزال مكانها، تاركينها، علماً أنه ليس وحده من مر في الجامعة ربما درس في كلية الآداب فيها محمد خاتمي». لكنه رئيس لبناني منتخب على عكس خاتمي، نقول له... «عال لم لا توجد صورة لأي رئيس لبناني منتخب حالي أو سابق؟ ماشي الحال، ثمة أعلام أخرى تخرجت من الجامعة، So What؟» .
لم تتغير نظرته للآخر. النظرة نفسها لكنها أصبحت أكثر نضجاً، «أتقبل الآخر وأتواصل معه لكن لا تتغير نظرتي إليه، هل يمكن تغيير تاريخ الحزب كله؟». اليوم لا ينتمي إلى الحزب. لم يؤثر فيه ضرب شباب أمام الجامعة «أكذب إن قلت نعم، من طلب من السوري دخول لبنان؟ بعضهم لم يعد لديه مشكلة مع السوري اليوم، صحيح أنهم تعرضوا للضرب، لكن نحن أيضاً كنا نضرب أمام الجامعة. لا ننسى عام 2009 عندما أتى مسلحون من الكتائب من ناحية الجعيتاوي واستمر وجودهم قرب الجامعة لنحو 3 ساعات». مورس بحق الطلاب المنتمين إلى حزب الله وأمل نوع من التطويق المزدوج عندما يقول الأستاذ «هودي الحوش»، نكون مطوقين من كل الجهات، يقول. يظن أن القوات كانوا يعتقدون أن الشيعة يتعلمون على حساب حزب الله. لكن الحقيقة أن «أهلنا من علّمونا». لا يمكنه تفهم «من ينادي بالسلم مع إسرائيل حتى اليوم، لا أشفق عليه إن تعرض للقمع أمام الجامعة. هذا إيماننا. شهداء حرب تموز وسوريا هم طلاب جامعات أيضاً».

وليد دمشقية عن «المستقبل»
(ماجستير في إدارة الأعمال عام 2012)


دخل إلى اليسوعية عام 2006 بعد اغتيال الحريري. أسس لنشاطه الحزبي داخل الجامعة «في عزّ 14 آذار». شارك بالتظاهرات و«بدأ العمل الحزبي في سنته الجامعية الأولى». أصبح مسؤولاً عن سنته الثانية في المستقبل، ثم عن كليته، فمسؤول المستقبل في «هوفلين» ثم مسؤولاً عن المجمعات الخمسة في اليسوعية، ثم مسؤول شباب المستقبل في بيروت، بعدها أصبح مسؤولاً في تياره عن جامعات لبنان، وأخيراً انتُخب في 2017 منسّقاً عاماً لبيروت في «تيار المستقبل».
اختار اليسوعية عوضاً عن الجامعة الأميركية في بيروت «بسبب الوضع المادي وليس لسبب آخر». لا ينظر إلى الجامعة «على أنها جامعة بشير، ممكن لو رفيق الحريري درس فيها لكنّا تصرفنا مثل القوات، الذين نتفق معهم على الثوابت الوطنية ذاتها، لكننا لا ننظر إلى بشير النظرة نفسها مع أني أحترم نظرتهم إليه». على الأرجح، صاروا يحترمون هذه النظرة بعد 2005. يختلف مع حزب الله تحديداً: «حركة أمل وطنيون أكثر قد نلتقي معهم في مكان ما». معركته الحقيقية «ضد حزب الله لأن عدده أكبر في الجامعة. ومع سلاحه». لا يمكن بالنسبة إليه التحالف بين أحزاب من نفس الطائفة «لأنها تتنافس على المقعد نفسه في الجامعة. إذ عرفياً يكون رئيس المصلحة مسيحياً ونائبه مسلماً. تماماً مثل القوات والتيار».

ملحم خليل عن التيّار الوطني
(إجازة في إدارة الأعمال عام 2010)


يُعرف بـ«ميلو». دخل الجامعة عام 2006، وتدرّج في مسؤولياته ضمن التيار الوطني الحر من مسؤول التيار في إدارة الأعمال، ثم في هوفلين كلها، ثم في الجامعة اليسوعية، ثم في جامعات بيروت، مسؤولاً للشباب والرياضة بقضاء الشوف، نائباً لرئيس الجامعات في التيار، وحالياً عيّن نائباً لرئيس لجنة الخريجين.
لكنه «كان ناشطاً سياسياً يوم كان تلميذاً في المون لا سال». كان يهرب من المدرسة «مع ما تمثّله من حيثية في النضال وقد خرّجت كادرات». في 2003 بدأ نشاطه السياسه عبر «توزيع المنشورات في منتصف الليل ولصق الصور والكتابة على الجدران، كان عملنا سرياً نخاف على أنفسنا وأهلنا يمنعونا». عام 2005 «خيّم في ساحة الاعتصام». في انتخابات 2005-2006 أي قبل التفاهم المعلن مع حزب الله «كنا قد تحالفنا مع الحزب والحركة وكسبنا 70 بالمئة من أصوات المسيحيين».
قبل التفاهم «كانت نظرتي كمسيحي لطلاب المقاومة مختلفة»، خصوصاً «أننا كنا خارج الحكم لمدة 15 عاماً. الأمر نفسه بالنسبة إلى المستقبل والاشتراكي وكل من كان في الحكم». في الواقع «كنا نخاف من التزمير لأننا كنا مضطهدين». رغم ذلك لم يجتمع التيار والقوات في الانتخابات الطالبية ولا في كل التظاهرات ضد الوجود السوري «لأن كانت لديهم حسابات مختلفة تتعلق بخروج جعجع من السجن».
في 2006 تبدّلت الأسباب «أصبحت معركتنا ضد التحريض الطائفي والدعايات، وهذا أخطر من الاحتلال السوري». لا تروقه الشعارات الرنانة التي كانت تردد ضد الطلاب الشيعة «يمنّنونهم بالسماح لهم بالتعلم في الجامعة». في النهاية «نحن مش جايين نحرر القدس، نحن طلاب، قوة حزب الله جاءت في سياق تاريخي وتحالفات قديمة لسنا نحن من صنعها. ننظر للطالب الشيعي على أنه طالب مثلنا يسدد قسطه ويتعلم».
يعتبر اليسوعية «جامعة الحرية التي كنا فيها يوماً ما، في وجه الحزب والحركة والمستقبل والاشتراكي». باب هوفلين هو «بوابة الحرية إذ أقيمت عشرات المظاهرات بين 2002 و2005 أمامه». يوم كان «العونيون والقواتيون والكتائبيون يرفعون الصوت وحيدين على أبوابها في حين كان الجميع نياماً».