عند بداية صياغة قانون «معالجة الإشغال غير القانوني للأملاك العامة البحرية»، منذ نحو سنتين، من قبل لجنة الأشغال العامة والنقل والطاقة والمياه النيابية، كان أعضاء اللجنة يُردّدون حينها العبارة الآتية: «علينا التركيز على ضرورة التوصل الى صيغة يستطيع المخالف تحمّلها ودفع الأكلاف المُترتبة عليه».آنذاك، كان النقاش متركزاً على «البدلات» الواجب دفعها لتعزيز موازنة الدولة، عوضاً عن أن يكون النقاش متمحوراً حول إنهاء هذه التعديات على الملك العام واسترداد هذا الملك من سطوة المعتدين، ليعود البحر ملكاً للناس.

التركيز على مُقاربة فرض «بدلات مقبولة» انعكس على القانون الصادر أخيراً، إذ غيّب الرادع القانوني الجدي للمعتدين وعمل على «محاباتهم» تمهيداً لتشريع تعدياتهم، فخفض الغرامات المستحقة وقدم تسهيلات بالدفع. ونصّ القانون على الإبقاء على المُنشآت الدائمة على الأملاك العامة البحرية، معتبراً أنها «تعدّ من الملحقات المكملة للإنشاءات المقامة على العقار الخاص مثل التجهيزات الرياضية والتنظيمية والترفيهية والمطاعم والكابينات التي يجب إيجادها قريبة من الشاطئ (...) شرط أن تكون مطابقة لأحكام قانون التنظيم المُدني والأحكام التطبيقية المتعلّقة بالأملاك العامة البحرية».


غرامات بخسة!

استخدام مصطلح دفع «البدلات السنوية» في نص القانون ينطوي على خطورة بالغة، فهذا المُصطلح يُستخدم للحديث عن مُلكية خاصة وليس عن غرامات يتكبدّها مخالفون ومُعتدون، وفق ما يشرح مؤلف كتاب «الأملاك العامة البحرية بين القانون والاجتهاد» المحامي إيلي خطّار، ويعتبر أن هذه البدلات تُعدّ «أقل من المطلوب» و»لا تراعي النسبة القانونية الأدنى للإيجار وفقاً للعُرف المُعتمد لدى الدولة اللبنانية».
عام 2014، قُدّرت الإيرادات الناجمة عن معالجة الإشغالات المخالفة بنحو 75 مليار ليرة سنوياً. وبحسب أحد الحاضرين خلال جلسة إقرار قانون سلسلة الرتب والرواتب حينها، فإن وزير المالية لم يذكر حجم الإيرادات ولم يُعط رقماً واضحاً. في هذا الوقت، تُظهر المعطيات أن الإيرادات المتأتية هي دون التوقعات.
يرد في البند الثامن من المادة 13 من قانون التعديلات الضريبية، المتعلقة بـ»معالجة الإشغال غير القانوني للأملاك العامة البحرية»، أنه يتم اعتماد النسب وقيم البدلات السنوية المُحدّدة بالمرسوم الرقم 12841 تاريخ 25/4/1963 المُعدّل بالمرسوم الرقم 2522 تاريخ 15/7/1992 (..) وفقاً للمعالجة الآتية: «الغرامة المتوجبة = البدل السنوي للمساحة المشغولة × نسب المُضاعفة × عدد السنوات».

الغرامات أدنى بكثير
مما يجب على الدولة
استيفاؤه

في هذه المعادلة شقان يُساهمان في تقليل الغرامات. الشق الأول المُتعلّق باعتماد البدل السنوي المُحدّد منذ 25 سنة، حيث كان تخمين سعر المتر آنذاك أدنى بكثير عمّا هو عليه الآن. مثلاً، بحسب المرسوم المذكور أعلاه، فإنّ سعر المتر المربع المعتمد لتحديد البدل السنوي المترتب على الإشغال المؤقت للأملاك العمومية البحرية للمنطقة الممتدة من مصب نهر الأولي الى مدخل صيدا الشمالي (محافظة الجنوب) مُحدّد بـ 150 ألف ليرة لبنانية فقط، فيما يبلغ سعر المتر في المنطقة العاشرة في بيروت بحكم هذا المرسوم، 625 ألف ليرة فقط، والمنطقة الممتدة من مصب نهر بيروت الى الطرف الجنوبي لمرفأ بيروت 750 ألف ليرة. أما سعر المتر في المنطقة الممتدة من مصب نهر ابراهيم الشمالية لمنطقة الصفرا العقارية فهو 250 ألف ليرة (محافظة جبل لبنان)، فيما لا يتجاوز سعر المتر في المنطقة الممتدة من الحدود الشمالية لمنطقة البترون العقارية الى أول قضاء جبيل (محافظة الشمال) 300 ألف ليرة.
أما الشقّ الثاني، فهو يتعلّق بتحديد نسب المُضاعفة التي لم تتجاوز الـ 4% كحد أقصى. تُظهر الجداول أن نسب المضاعفة على الشطور تراوحت بين 1% و3.5% فقط، فيما يقول المحامي خطّار إن النسبة القانونية الأدنى للإيجار وفقاً للعرف المعتمد لدى الدولة هي 6%. يُعطي خطّار مثالاً عن كيفية احتساب غرامات المخالفين، وفق المنصوص عليه، في منطقة الجناح. يقول إن اعتماد نسبة المضاعفة الـ 1% لنحو 2000 متر من الأملاك العمومية البحرية كفيل بأن يجعل البدل السنوي للإشغال لا يتجاوز 18 مليون ليرة سنوياً، أمّا إذا اعتمدت نسبة الـ 6% فإن البدل سيتجاوز الـ 100 مليون ليرة. ويُضيف في هذا الصدد: «الـ 18 مليون ليرة كبدل سنوي هي أقل من إيجار مكتب في منطقة بيروت، وهي أقلّ أيضاً من أرباح أصحاب المنتجعات السياحية من عبوات المياه التي يبيعونها هناك».


تقسيط الغرامات وحسم 20%

لم يقتصر «دلال» المُعتدين على الغرامات الزهيدة فحسب، إذ ينطوي أيضاً على كيفية تسديد هذه الغرامات. ينصّ القانون على أنه في حال سدّد الشاغل المبالغ المتوجبة عليه دفعةً واحدة يُعفى من نسبة 20%. كذلك يمكن للشاغل أن يطلب خلال مهلة شهر من تاريخ تبلّغه أوامر التحصيل تقسيط المبالغ المتوجبة عليه لمدة 5 سنوات على 5 أو 10 أقساط متساوية، يستحق القسط الأول منها خلال الشهر الأول من تاريخ الموافقة على التقسيط.
إلا أن المُفارقة تكمن في ما تم «دسّه» في البنود المتعلّقة بالغرامات. يقول البند الثاني من القسم الثالث المتعلق بالتعديات الحاصلة قبل عام 1994، إنه إذا كان شاغل الأملاك العامة البحرية لا يملك عقاراً متاخماً أو غير حائز حق إيجار واستثمار، تضع الإدارة يدها على الأملاك العامة المشغولة ويجري إخلاؤها، «ما لم يُثبت الشاغل خلال ستة أشهر أنه تملّك العقار أو العقارات المتاخمة أو استحصل على عقد إيجار أو استثمار عليها كلياً أو جزئياً». عندما عرضت «الأخبار» مضمون نص القانون على مصدر قضائي قبل إقرار القانون، وجد المصدر أن هذا البند يحوي مضموناً خطيراً «لأنه يكفي استثمار سهم واحد فقط من العقار المتاخم لتشكيل الاستثمار الجزئي». بمعنى آخر، المُشرّعون يطلبون من المعتدين «تسوية أمورهم» كي لا تُزال التعديات على الملك العام.


آلية الدفع مشبوهة

يرى خطار أن قانون «معالجة الإشغال»، بخلاف اسمه، لم «يُعالج شيئاً، بل على العكس، أبقى على الاعتداء، يكفي أنه أغفل مسألة الإشغال المؤقت السنوي واستخدم مصطلح البدلات التي تُستخدم للملكيات الخاصة وتجنّب استعمال مصطلح الغرامات».
اللافت في مسألة إغفال ذكر الإشغال المؤقت السنوي، هو أنه ينعكس على آلية الدفع. يقول خطار الذي اطّلع على القانون، إن آلية الدفع غير واضحة وغير مفهومة، «لم نعرف مثلاً إذا ما سيتم دفع الغرامات مرة واحدة، أو بشكل سنوي»، لافتاً الى أن هذه النقاط تترك علامات استفهام يجب البحث فيها. أمّا النقطة الأهم التي يُشير إليها فهي تتعلّق بـ»تغييب الرادع الجدي عن النصوص وإغفال قانون العقوبات»، لافتاً الى غياب مُقاربة الحفاظ على الملك العام البحري عن طريق تحريرها من كل إشغال غير مرخّص وعدم إعطائه طابع الشرعية.
يرد في البند السابع أنه «يعتبر الشاغل الذي لا يخلي المساحات المشغولة معتدياً وتطبق عليه القوانين الجزائية التي ترعى هذه الأوضاع». يرى المصدر القضائي أن هذا البند «لا يعدّ رادعاً فعلياً للمعتدين، ذلك أن جميع المعتدين على الأملاك العامة تطبق عليهم المواد الجزائية التي ترعى التعدي على الملك العام ولا يجري إخلاؤهم. وبالتالي، فإن هذا البند لا يضيف شيئاً الى الوضع الحالي ويبقى المخالف مخالفاً دون تسوية».




أكثر من 1141 تعدياً

للتذكير، فإنه وفق آخر تقرير رسمي أعدّته وزارة الأشغال العامة عام 2012، جرى إحصاء أكثر من 1141 تعدّياً على الأملاك العامّة البحرية، من بينها 73 تعدّياً «مرخّصاً» فقط. ويبيّن هذا التقرير أن 431 تعدّياً لا تنطبق عليها شروط المرسوم التنظيمي الرقم 4810 (الذي يتم استعماله للترخيص بالإشغالات المؤقتة)، وتشمل هذه التعديات مساحة مليون و276 ألفاً و523 متراً مربعاً من ردم البحر، و288 ألفاً و140 متراً مربعاً من المسطح المائي، و96 ألفاً و502 من الإنشاءات. كذلك يوجد 530 تعدّياً لا يمتلك مرتكبوها أيّ أملاك خاصة متاخمة للشاطئ المعتدى عليه، وتشمل نحو 602 ألف و487 متراً مربعاً من الردم، و12 ألفاً و260 متراً مربعاً من المسطح المائي، و157 ألفاً و411 متراً مربعاً من الإنشاءات.





أصحاب المنتجعات البحرية: سيكون لنا موقف

في اتصال مع «الأخبار»، يقول رئيس نقابة أصحاب المُنتجعات البحرية جان بيروتي إن النقابة لم تطّلع بعد على الشكل النهائي للقانون، لافتاً الى أن النقابة سيكون لها موقف ورأي فور الاطلاع عليه، علماً بأن ممثلين عن النقابة كانوا قد حضروا الجلسات الأولى عند بداية صياغة القانون. يرى بيروتي أن النقابة تعترف بضرورة دفع المتوجبات عليها، لافتاً الى أن «الدولة في النهاية ستفرض ما تراه وسنُنفّذ، ولكن سيكون لنا موقفنا ورأينا. لكننا نستبعد أن يكون هدف الدولة هو ضرب القطاع السياحي».