لطالما جادل آدم سميث، الذي يُعدّ مرجعاً لنظام إدارة السوق الحرّة، أنّ أصل الثروات في العالم هو العمل. وللمفارقة، لطالما سارت أنظمة اشتراكية كثيرة من بعده على قاعدة أن مراكمة الثروات هو مجدٌ، كما فعلت الصين في مرحلة انفتاحها على العولمة.
ولكن كلّ النظريات وفلسفات الاقتصاد تذبل في ظلّ أحوال العالم الاقتصادية التي تعكسها مرآة توزّع الثروات.
اليوم، بعد أكثر من مئتي عام على سميث وعقود طويلة على تجارب الاشتراكية، يجد البشر أنفسهم في عالم يملك النصف الفقير منه أقل من 1% من مجمل ثروته، فيما تصل نسبة ما يملكه أغنى 10% إلى 90% تقريباً. هذه أحدث بيانات الثروة العالمية التي يؤمّنها قسم إدارة الثروات والاستثمارات في مصرف "كريديه سويس" (Credit Swiss). بيانات تؤكّد، بحسب معديها، "أنّ عدم المساواة في توزّع الثروات في العالم، مستمرّة في الارتفاع".

محرّك نمو الثروات

توضح بيانات المصرف السويسري، أنه للمرّة الأولى منذ عام 2008، بقي معدّل ثروات الأفراد في العالم ثابتاً هذا العام، عند 52800 دولار للفرد الواحد بعدما كان في مسار تصاعدي خلال السنوات الثماني الماضية. فعلى الرغم من ارتفاع قيمة الثروة الكونية بنسبة 1.4% إلى 256 تريليون دولار إلا أن تأثير ذلك تبخّر مع احتساب نموّ السكان وتركّز توزيع الثروة.
كذلك، يُسجّل تغيّر على مستوى مصدر الثروات. فمنذ عام 2008، كان محرّك نمو تلك الثروات هو الأصول المالية (السندات والأسهم والمنتجات المالية المركبة التي تُتداول في الأسواق المالية)، أما في عام 2016، يتبيّن أن الأصول العقارية شهدت زيادة بواقع 4.9 مليار دولار مقارنة بزيادة تبلغ 330 مليار دولار في الأصول المالية.
وتُعرف "الثروة"، وفقاً لتصنيف "كريديه سويس"، أنها قيمة الأصول المالية والعقارات (المنازل تحديداً) التي يملكها الأفراد والعائلات، مطروح منها مجموع الديون المترتّبة عليهم. وتشمل الدراسة 4.8 مليار إنسان بالغ من 200 بلد، وتستثني الثروات المتواضعة نسبياً التي يملكها القاصرون في حساباتهم المصرفية.
وفيما يخلص التقرير إلى أنّ 9% من البالغين في العالم هم مدينون صافيون (بمعنى أنه حتّى بامتلاكهم أصول فإنّها لا تُغطي حجم دينهم) ويصف الوضع بأنه "تطور مثير للقلق من دون شكّ"، تبقى الخلاصة الأهمّ والأخطر تتعلّق بما يملكه أغنى واحد في المئة؛ وهي النسبة ذات الرمزية الهائلة اقتصادياً واجتماعياً والتي تُخبر حساباتها المصرفية الكثير عن أحوال العالم.

سيطرة الـ0.7%

وهذا العام، يفيد المسح أنّ 0.7% فقط من البشر البالغين يملكون 45.6% من الثروات الإجمالية - وتبلغ ثروة كلّ منهم مليون دولار وما فوق، ويتجه هؤلاء في ظلّ نمط تركّز الثروة الحالي، إلى السيطرة على نصف ثروة البشر. أما الشريحة التي تلحقهم، والتي تتحدّد بمعدّل ثروة بين 100 ألف دولار ومليون دولار، وتشكّل نسبة 7.5% من السكان، فتملك 40.6% من ثروة هذا الكوكب.
وانطلاقاً من هذه البيانات الحديثة، يُمكن العودة إلى نقاش، تعمّق خلال العقد الأخير، بخصوص عدم المساواة في توزّع الثروة في العالم. ففي ظلّ وتيرة متسارعة في خلق الثروة نتيجة انفتاح الأسواق بين آسيا وأميركا الشمالية تحديداً، ومع انتفاخ الأسواق المالية بمنتجات تؤمّن عائدات خيالية من دون قيم مضافة فعلية، تضخّمت ثروات الأقلية المتناقصة التي تسيطر على هرم إدارة الإنتاج والرساميل في العالم. وقد عالج الاقتصاديون، وأبرزهم أخيراً، الفرنسي توماس بيكيتي، ظاهرة تركّز الثروات في إطار دينامية تفرضها الرأسمالية تزيد من ثروات الأغنياء وتُفقر الفقراء، وتقلّص بالتالي من إمكانية الحركية الاجتماعية والطبقية؛ ودعا إلى فرض ضريبة عالمية على الرساميل تخلق نوعاً من التوازن وتقلّل من مساوئ الرأسمالية.

تزايد الظلم

في منتصف هذا العام، نشرت منظمة "أوكسفام" تقريرها الشهير عن أحوال الثروات في العالم، وخلصت إلى أنّ 62 مليارديراً في العالم يسيطرون على نصف الثروات، بعدما نمت ثرواتهم بواقع نصف تريليون دولار بين عامي 2010 و2015، وبلغت 1.76 تريليون دولار. في المقابل، هوت ثروات النصف الأفقر من البشر بنسبة 41% خلال الفترة نفسها. وأشارت المنظمة إلى تحقّق توقّعاتها في ما يخصّ تزايد الظلم في توّزّع الثروة والمؤشر الأهمّ لذلك هو أن أغنى 1% من هذا الكوكب يملكون ما يملكه أفقر 50% منه.

0.7% فقط من البشر
البالغين يملكون 45.6% من الثروات الإجمالية


وفي ظلّ تعاظم الهوّة بين الفقراء والأغنياء في العالم، يركز تقرير "كريديه سويس" هذا العام على الجزء الأفقر من سكان الأرض، وتفيد تقديراته بأنّ نصف البالغين يملكون أقل من 2222 دولاراً، والخِمس الأفقر منهم لا تتعدّى ثروته 248 دولاراً. وفي بحثه الخاص بمكان تواجد المليار الأفقر على هذه الأرض، يخلص إلى أن 486 مليوناً منهم، أي النصف تقريباً، يعيشون في أفريقيا أو الهند.
أما لدى بحث محدّدات ضعف الثروات في داخل البلدان نفسها، يقول إنه "تماشياً مع التوقعات، فإن الثروات المتواضعة تُعدّ نتيجة الدخل المنخفض أو المديونية العالية". ويُضيف إنه في معظم البلدان ترتبط أيضاً بملكية محدودية للأصول الفعلية. ويشرح أن "معظم العائلات التي لا تملك سوى أصول قليلة لا تملك مساكن، وبالتالي، فإن هذه الخلاصة تدعم الرأي القائل بأن ملكية المسكن تُعدّ عاملاً مهماً في مراكمة ثروة العائلات".

الآفاق المتواضعة في أسواق العمل

من ناحية أخرى، يخلص معدّو التقرير إلى أن "عامل الخطر" الأول لسقوط العائلات في هوة الثروة المتواضعة هو إذا كان رب العائلة شاباً، أعزباً أو ذا تحصيل علمي محدود. "ولكن على الرغم من كون التعليم الجيد عاملاً في تجنّب حياة فقيرة، لا يُشكّل حماية متكاملة، وليس غريباً رصد أفراد ذوي تحصيل علمي رفيع في الخِمس الأفقر". وقد يعود هذا الأمر، يتابع التقرير، إلى كونهم شباباً في مطلع دورتهم الإنتاجية ومراكمة ثرواتهم، غير أنه يُعدّ أيضاً نتيجة الآفاق المتواضعة في أسواق العمل خلال السنوات الأخيرة ونتيجة تراكم الديون على كاهل الطلّاب في بعض البلدان.
وبالعودة إلى نتائج التقرير لعام 2016، يُلاحظ أنه على الرغم من أن الأغنياء في الولايات المتّحدة واليابان ساهموا على نحو كبير في توليد ثروة إضافية استثنائية هذا العام - فيما شهدت ثروات البريطانيين تراجعاً نتيجة هبوط سعر صرف الجنيه الاسترليني - يبقى العرش لسويسرا في المؤشر العام.
وفي الواقع منذ مطلع الألفية يتصدّر هذا البلد الأوروبي ذو الخصوصية الاقتصادية والنقدية في محيطه، اللائحة العالمية لناحية معدّل ثروة الفرد البالغ الواحد، ومنذ عام 2012، فاق هذا المعدّل عتبة نصف مليون دولار، وهو مستوى لم يحقّقه أي بلد آخر. وفي عام 2016 تحديداً بلغت ثروة السويسريين الإجمالية 3.5 تريليونات دولار ما يجعل السويسري أغنى من المواطن العادي – الذي يملك ثروة تعادل المعدّل العالمي – بواقع 11 ضعفاً. ولكي يكون المرء من بين أغنى 1% في سويسرا يجب أن يتمتع بثروة تفوق 5 ملايين دولار، وهو ضعف المعدل الذي كان مسجّلاً عند مطلع الألفية.