«يلّي راعبة مدرسة مش حلو يرعبها صرصور». هذا ما كُتِب أسفل اللوحة، التي تحمل إعلاناً لشركة «فاب» للمبيدات الحشريّة، وفيها صورة لما يوحي أنّها ناظرة مدرسة. امرأة بشعر قصير، مع نظّارة، حاجب مرفوع دون الآخر، تحمل دفترها والقلم، فم مكوّز مع نظرة إلى الأمام في منتهى الخبث. لا يظهر في اللوحة وجه الطفل (التلميذ) المرعوب مِنها. لك أن تتخيّله.
هذا إعلان راج في شوارع بيروت وضواحيها، خلال الأسبوع الماضي، على تلك اللوحات الإعلانيّة المنتشرة سرطانيّاً. دعنا مِن التلوّث البصري لهذه اللوحات، ودعنا مِن انعدام الذوق الفنّي في أكثرها، لكن ما الرسالة؟ إرعاب أطفالنا في المدارس مسألة عاديّة، هذه مُسلَّمة، لكن أن ترتعب الناظرة مِن صرصور، فهذا غير مقبول! هذه هي «الثقافة» المبثوثة على الطرقات.

هل يوجد لدينا «هيئة معايير»؟ الجواب: كلّا. المسألة متروكة

لوحة إعلانيّة أخرى، للمُنتَج نفسه، يظهر فيها شاب يرتدي «البروتيل». متكتّف، جنزير يتدلّى مِن عنقه، مفتول العضلات مع أوشام كثيرة فوق جسمه، حاجب مرفوع ومشطوب، مع نظرة «شرانيّة»... وأخيراً «الحكمة» التي يُعبّر عنها: «يلّي مربّا الحي مش حلو تربّي برغشة». إعلان يُحاكي الصورة النمطيّة، الحديثة، للشاب (الذكر جدّاً) «المشكلجي« أو «الأزعر» المفتري الذي يحيل حياة جيرانه إلى جحيم. الناس عنده مجرّد «برغش». الغريب أنَّ هذا الإعلان، بصورتيه، ورغم انتشاره، لم يحصل أن أثار ضجّة في وسائل الإعلام أو حتّى في الفضاء الإلكتروني. هل لأن المحتوى ليس جنسيّاً؟ ربّما. لا مَن يُعارِض ولا مَن يؤيّد. لا حملات. لا «هاشتاغات» ولا مَن يُهشتغون. إعلانات كهذه، مع رصد كيفيّة تلقّيها، يُمكن مِن خلالها نوعيّة القيم الحاكمة في مجتمع ما. بالتأكيد، هذه الإعلانات لا تنطلق مِن فراغ، لكن هذا، في مطلق الأحوال، لا يعفيها مِن مسؤوليّة ترسيخ تلك الأنماط. لقد تصالح الناس مع غابتهم المتفاقمة. أصبح العنف المجّاني، في أسخف صوره، مادة للإعلانات التجاريّة. هذا نوع مِن «البانويات» التي لن تجد مَن يُطالب بإزالتها (لأنّها ليست لمشروب كحولي، كما حصل أخيراً في الشمال)، وكذلك لن تجد مَن يمزّقها أو يغطّيها بالدهان (لأنّها ليست لكولون نسائي، مثلاً، كما يحصل في كثير مِن المناطق).
الأثر البصري - النفسي للإعلانات، علميّاً، أصبح معروفاً. الدراسات كثيرة. المسألة في أصلها بديهيّة. منتصف العام الماضي، أصدر عمدة لندن، صادق خان، قراراً يحظر فيه الملصقات الإعلانيّة التي تُظهر أجساداً «غير واقعيّة». تلك الإعلانات التي «تحطّ مِن قدر الناس، خاصة النساء، إذ تدفعهن إلى الشعور بالخجل بأجسادهن... لقد آن أوان وقف هذا». بعيداً عن العمدة وقراراته، يوجد في بريطانيا شيء اسمه «هيئة معايير الإعلانات». مسؤولو هذه الهيئة قالوا، آنذاك، إنّ «السخرية مِن الأدوار غير النمطيّة، وتعزيز الآراء النمطيّة حول الرجال أو النساء، وحملات الترويج الخاصة بالأطفال، وعرض صور أجساد غير واقعيّة أو مبالغ في مثاليتها، كلّها قضايا لاقت اهتمام الجمهور». كان خان، في توضيحه لخلفيّات قراره، الذي لاقى تأييداً مِن ناشطين ومختصين بهذا الشأن، قال: «أثناء التنقّل بالحافلات أو قطارات الأنفاق، يجب ألّا يشعر أحد بما يزعجه بسبب نظرات غير واقعية مرتبطة بالجسم. أنا أوجه، بقراري، رسالة واضحة إلى العاملين في حقل الإعلانات في هذه القضيّة». بعيداً عن رؤساء البلديّات في لبنان، الذين توكل إليهم مهمّة التراخيص لتلك اللوحات الإعلانيّة، والذين لو حدّثت أكثرهم في مواضيع كهذه لظنّوك معتوهاً... إنّما السؤال: هل يوجد لدينا «هيئة معايير«؟ الجواب: كلّا. المسألة متروكة. حتى المراسيم الناظمة، لشكل اللوحات وأماكنها أقلّه، لا يُلتزم بها.
هل نذكر إعلان «فيليدا» (تبع خرقة التنظيف) قبل عامين، التي كُتِب فيه: «لينضف لبنان... سلّمو للنِسوان». بهذا الإسفاف والاستهبال. كذلك إعلان «كوني جميلة، وصوّتي» (قبل 8 سنوات قبيل الانتخابات النيابيّة). هذا الإعلان «المسروق» مِن الأدبيات الفرنسيّة، مع تحويره انتخابيّاً، والمرفوض ضمناً في بلده الأصلي، لما يحمله مِن إهانة. أو الإعلان الذي راج مرّة، كتجارة بـ«المرأة» أيضاً، الذي يدعو النساء إلى شراء شقق (بلا دفعة أولى) للعيش وحدهن بعيداً عن الرجل. لم ينسَ صانعو الإعلان أن يضعوا صورة لفتاة «مضروبة على عينها». يصعب إحصاء هذا النوع مِن الإعلانات التي تنتشر على لوحات في كلّ المناطق، والتي لن يبقى شيء لن تُتاجر به أو تلعب على وتره مِن أجل الربح... وليس الصرصور إلا آخر الحلقات.