يُشيدُ سياسيون وصحافيون بشكل دوري بسياسة مصرف لبنان النقدية، ويقدِّمون الحجج والأمثلة على نجاحها بالمحافظة على استقرار النقد الوطني وحركة الرساميل. لكنّ عدداً قليلاً من هؤلاء مُضطلع بالسياسة النقدية وله معرفة بالآثار التي خلَّفتها هذه السياسة على الاقتصاد الكلّي وبنية السوق.سنقوم في ما يلي بمراجعة لتلك السياسة بشكل يسمحُ للرأي العام بمعرفة جزء من الحقيقة، بعيداً عن المزايدات أو التكرار لمقولات لا علاقة لها بالاقتصاد.

1. تنظيم القطاع المالي ومراقبته

اتخذ مصرف لبنان الإجراءات والتدابير اللازمة لاحترام القوانين الدولية، وخاصة في ما يتعلّق بمكافحة تبييض الأموال ومحاربة الإرهاب. كما أنه قام بما يجب عليه في موضوع مكافحة التهرّب الضريبي الذي قد يُقدم عليه مواطنون أو شركات من جنسيات أجنبية، وبشكل خاص حاملو الجنسية الأميركية.
في المقابل، لم يقم مصرف لبنان بدوره كاملاً في ما يتعلّق بحماية المتعاملين مع القطاع البنكي، كما أنه لم يتدخّل لمنع انتفاخ الفقاعات في عدد من القطاعات، وخاصة في قطاعي العقارات والبناء.

يلجأ مصرف لبنان إلى آلياتٍ
مُقنّعة لرسملة البنوك
من حساب اللبنانيين

2. السياسة النقدية منذ عام 1993

تقوم السياسة النقدية على قاعدة تمويل الدين العام والعجز المتنامي في المالية العامّة، كما على التمويل المستمر للعجز في الميزان الجاري. كذلك تهدف السياسة النقدية إلى المحافظة على ثبات سعر الصرف الاسمي لليرة مقابل الدولار الأميركي، بما سمح باحتواء جزئي للتضخم.
في المقابل، أدَّت السياسة النقدية إلى خنق القطاعات المنتجة للقيمة المضافة وللثروة الوطنية، والتي تخلق فرص عمل لليد العاملة الماهرة ومتخرِّجي الجامعات، وذلك بسبب ارتفاع أسعار الفائدة الاسمية والحقيقية، ما يرفع مستوى الإدّخار (بهدف الاستفادة من العائد المرتفع على الودائع)، على حساب الاستثمار (إلا في ما يتعلّق بالتوظيفات المالية والقطاع العقاري).
لا يمكن فصل الهجرة المتلاحقة لليد العاملة الماهرة ومتخرجي الجامعات، كما المستوى المرتفع للبطالة عن السياسة النقدية المتبعة.
كذلك، لا يجب إغفال أثر السياسة النقدية على العجز في حسابات الدولة المالية. فبين عامَي 1991 و2015، بلغ مجمل عائدات الدولة اللبنانية من ضرائب ورسوم 124 مليار دولار، تقابلها نفقات تبلغ 121 ملياراً، وذلك قبل احتساب خدمة الدين العام. بمعنى آخر، وعلى الرغم من الهدر الفاضح في العائدات والنفقات، فإن الدولة اللبنانية حققت فائضاً أولياً مقداره 3 مليارات دولار.على الرغم من هذا، دفع اللبنانيون ما يفوق الـ 67 مليار دولار فوائد على الدين العام، وهم يرزحون حالياً تحت دين عام يتخطّى الـ 75 مليار دولار.
لا يجب في هذا الإطار إغفال مسؤولية الحكومات المتعاقبة عن هذا العجز وعن مستوى الدين العام، لكن يجب أيضاً الاعتراف بأن السياسة النقدية مسؤولةٌ كذلك عن هذه النتائج وعن المخاطر المرتبطة بها، بفعل سياسة الفوائد المرتفعة وبفعل شهادات الإيداع، اللتين ساهمتا في انخفاض الاستثمار الخاص وفي منع تمويل سندات الدين الحكومية بتكلفة معقولة.

3. الهندسات المالية منذ عام 1993

ممّا لا شك فيه أن تكلفة الهندسات المالية مرتفعة، وهي تخدمُ أساساً المساهمين في المصارف اللبنانية، من دون أن يكون لهذه الهندسات أثرٌ إيجابي على الاقتصاد الحقيقي. في المقابل، تساهم هذه الهندسات في رفع مستوى النقد في التداول بشكل كبير وتقودُ بشكل آليّ إلى عمليات تعقيم (Operations de Stérilisation) يتحمّل تكلفتها مصرف لبنان وتكون نتيجتها انخفاضاً إضافياً في أرباح المصرف المركزي.
يجب الإشارة في هذا الإطار إلى أن إجمالي الميزانية العمومية لمصرف لبنان يقارب الـ 110 مليارات دولار، في حين لا تتخطّى تحويلاته إلى الخزينة الـ 60 مليون دولار سنوياً، وهذا عائدٌ منخفض للغاية مقارنة مع جميع المعايير المالية والاقتصادية.
إحدى مهمات البنك المركزي تأمين السيولة للبنوك وللقطاع المالي بشكل عام، وخاصة عندما يتعرض أحد البنوك الكبرى لأزمة في السيولة، وذلك لتفادي المخاطر النظامية (risquessystématiques). ولعلّ تأخر مصرف لبنان في إمداد بنك إنترا بالسيولة التي يحتاج إليها هو ما أدّى إلى إفلاسه وانتقال عدوى الأزمة إلى البنوك الأخرى في شهر تشرين الأول عام 1966.
إن الجدل الحالي حول هندسات مصرف لبنان الأخيرة لا يتعلّق بأسباب تلك الهندسات – التي قامت أساساً بهدف مساعدة عدد محدود من البنوك على مواجهة خسائرها الخارجية – بل يتعلّق بالآليات التي قام بها مصرف لبنان بمساعدة تلك البنوك، حيث إنه أجرى العمليات المالية لمصلحة عددٍ محدود من مساهمي البنوك، بدلَ أن يُجريها لمصلحة الاقتصاد بشكل أساسي ولمصلحة دافعي الضرائب.
تكثر الأمثلة في هذا المجال:
• إبَّان الأزمة المالية العالمية في عام 2008، ساعد الاحتياط الفدرالي عدداً من البنوك (كما أحجم عن مساعدة عدد آخر منها، ما أدّى الى انهيار بنك Lehman Brothers في أيلول 2008 وقاد الى توسّع الأزمة بشكل كبير). عندما ساعد الاحتياط الفدرالي البنوك، أخرج مساهميها وتملّك أسهمهم، كما أنه عزلَ مديري تلك البنوك، قبل أن يعود لاحقاً ويبيع أسهم تلك البنوك محققاً أرباحاً ملحوظة لمصلحة المكلّف الأميركي.
• في فرنسا، أقدمت السلطات على إقراض البنوك السيولة التي تحتاج إليها، بفائدة بلغت 8.5%. وقد سمح هذا الإجراء للسلطات بتحقيق ربح يتخطّى الـ 3 مليارات دولار لمصلحة المكلّف الفرنسي.
• أمّا في لبنان، فإن الهندسات الأخيرة – بدل أن تهدف الى تحقيق الربح لمصلحة المكلّفين – فإنها توجهت حصراً الى المساهمين في المصاريف، الذين حققوا ربحاً استثنائياً بعائد 40%.
كان على مصرف لبنان أن يُؤمّن السيولة اللازمة بتكلفة مقبولة للبنوك التي يصعب عليها اللجوء الى السوق، وذلك الى حين عودة هذه البنوك الى ظروف أكثر ملائمة، بدل أن يلجأ الى آلياتٍ مُقنّعة لرسملة البنوك من حساب اللبنانيين.

4. ثبات سعر الصرف

يجب المحافظة على سياسة سعر الصرف الحالية، لما لها من منافع على الاقتصاد اللبناني الصغير والمُنفتح (Petite économie ouverte). خلافاً لما يعتقده البعض، فإن تكلفة تثبيت سعر الليرة مقابل الدولار الأميركي ليست مرتفعة، إذ يكفي أن يكون الهامش بين سعر الفائدة في الداخل والخارج ما بين 1.5% و1.75% (على الودائع بالدولار) ليستمرّ تدفق التحويلات وليبقى سعر الصرف ثابتاً.
اللافت أن مصرف لبنان آثر تباعاً رفع معدلات الفائدة بشكل يفوق التوازنات الماليّة، فساهم في تضخم خدمة الدين وبرفع تكلفة الإقراض والاقتراض، كما فاقم من أزمة الاستثمار، ما أدى في النتيجة إلى رفع مستوى العجزين المالي والتجاري ودفع العديد من اللبنانيين الى الهجرة الى الخارج.
5. ختاماً، لا يمكن توقّع نتائج مختلفة على المستوى الاقتصادي إذا ما تابعت السلطات النقدية سياستها الحالية. فما عدا المحافظة على ثبات سعر الليرة مقابل الدولار، يجب أن تهدف السياسة النقدية الى خفض كلفة تمويل الدولة والشركات، كما إلى تشجيع القطاعات المنتجة. أما مساعدة البنوك والقطاع المالي، فيجب أن تكون مخصصة فقط لتلك التي تواجه مصاعب مالية أو صعوبات مرحلية.
* خبير مالي واقتصادي