لا تنحصر مشكلة الأجور في لبنان بتدني قيمتها وتهاوي حصتها من 35% من مجمل الناتج المحلي في التسعينيات إلى 20% حالياً، بل أيضاً في اللامساواة بتوزيعها بين فئات العاملين بأجر.
ففي حين يعتبر الحد الأدنى للأجور الرسمي منخفضاً قياساً إلى كلفة المعيشة، ولا يتجاوز 675 ألف ليرة، بالإضافة إلى بدل النقل اليومي الذي يُحرم منه أكثر من نصف الأجراء في القطاع الخاص، أظهرت دراسة صادرة عن وزارة المالية وبرنامج الأمم المتحدة الإنمائي حول اللامساواة في الدخل أن مروحة الأجور في القطاع الخاص تتراوح بين متوسط أعلى من 221 مليون ليرة، أي نحو 18.5 مليون ليرة شهرياً، وما يمثل 27.28 مرة الحد الأدنى للأجور. وبين متوسط أدنى من 3 ملايين ليرة سنوياً، أي 250 ألف ليرة شهرياً وهو يمثل نحو ثلث الحد الأدنى للأجور فقط.

العاملون في القطاع الخاص

شملت الدراسة عيّنة تمثل 31% من القوى العاملة (لبنانيون وغير لبنانيين يعملون في الاقتصاد النظامي وغير النظامي)، واستندت إلى بيانات الإدارة الضريبية، وأظهرت أن 2% من العاملين في القطاع الخاص يستحوذون على 17% من مجمل الأجور المصرّح عنها، في حين أن حصة 59% من العاملين لا تتخطى 22%.
وفي التفاصيل، يتبين أن 6.3% من العاملين في القطاع الخاص، تبدأ أجورهم من 60 مليون ليرة وتصل إلى أكثر من 120 مليون ليرة سنوياً، ويستحوذون على 31.8% من مجمل الأجور المصرّح عنها، في حين أن 81.5% من العاملين تقلّ أجورهم عن 6 ملايين ولا تتجاوز 30 مليوناً سنوياً، وتبلغ حصتهم 45.7% من مجمل الأجور المصرّح عنها.
هذا التفاوت يزداد اتساعاً كلما جرى التدقيق في حصة ذوي الأجر الأعلى، إذ تُظهر الدراسة نفسها أن 1.4% من العاملين في القطاع الخاص (من ضمن فئة الـ6.3%) تصل حصتهم إلى 14% من مجمل الأجور المصرّح عنها (تبلغ حصتهم 44% من حصة فئة الـ6.3%).
كذلك يوجد تفاوت كبير في داخل فئة الـ81.5%، إذ أن 24% من العاملين في القطاع الخاص (أقل من ثلث العاملين من هذه الفئة) تتراوح أجورهم بين 15 مليوناً و30 مليون ليرة سنوياً، تبلغ حصتهم نصف حصة هذه الفئة، أي نحو 23.3% من مجمل الأجور المصرّح عنها، في حين أن الـ10.6% من العاملين في القطاع الخاص الذين لا تتعدى أجورهم الـ6 ملايين ليرة سنوياً، لا يحصلون سوى على أقل من 1.5% من مجمل الأجور.
على الرغم من هذا التفاوت الواضح، إلا أن حدّته تظهر أكثر في القيم المطلقة. إذ يشير التقرير إلى أن متوسط الأجور السنوية في شريحة 10.6% الأدنى أجراً، أي الذين يتقاضون أقل من 6 ملايين ليرة سنوياً، لا يتعدّى 3.2 مليون ليرة (2000 دولار)، أو نحو 266 ألف ليرة شهرياً، ما يشكّل 0.1 من متوسط الأجر المصرّح عنه. في المقابل، يبلغ متوسط الأجور في فئة الـ1.4% الذين يتقاضون أجوراً تتعدى 120 مليون ليرة، يصل إلى 221 مليون ليرة سنوياً (حوالى 147.3 ألف دولار)، أي حوالى 10 مرات أكثر من متوسط الأجر. ولذلك قد يصحّ تقسيم شريحة 1.4% إلى شرائح أيضاً.

العاملون لحسابهم

تشتد التفاوتات لدى فئة العاملين لحسابهم وغير النظاميين، كونها تضم رواد الأعمال والباحثين إلى جانب المياومين، ولذلك فإن الشريحة الدنيا، والتي تتضمن 25.4% من دافعي الضرائب (يتقاضون أقل من 6 ملايين ليرة سنوياً) ولا يحصلون سوى على أقل من 4% من مجمل المداخيل المعلنة لهذه الفئة، في حين تحوز الشريحتان العليا المحققة لمداخيل تبدأ عند 60 مليون ليرة سنوياً لتصل إلى ما يفوق 120 مليون ليرة، على 46.7% من مجمل المداخيل. ويزيد ذلك عن ما تحققه الشريحتان المتوسطتان، اللتان تشكلان حوالى 26% من دافعي الضرائب في هذه الفئة (15 مليوناً إلى 60 مليوناً)، المقدر بنحو 31.6% من إجمالي المداخيل المعلنة.

التفاوت بعد اقتطاع الضريبة

81.5% تبلغ حصتهم
45.7% من مجمل الأجور
المصرح عنها


تُظهر الدراسة أن بعد اجتزاء الضرائب، تصبح حصة أعلى شريحتين من دافعي الضرائب (60 مليوناً سنوياً إلى 120 مليوناً، وما فوق الـ120 مليوناً)، أي 6.3% منهم، 32.6%، في حين تبقى حصة 56.8% من دافعي الضرائب حوالى 22.4%. وتذكر الدراسة أنه في عام 2014 لم تشكل مجموع ضرائب الدخل الشخصية التي تم جمعها إلّا 0.8% من إجمالي الناتج المحلي. ويعود ذلك بحسب الدراسة إلى حجم الاقتصاد غير النظامي، وحجم المداخيل التي لا يتمّ الإعلان عنها، وكذلك الإعفاءات.

قيمة الأجور

شملت الدراسة 456.319 من دافعي الضرائب العاملين في القطاع الخاص بين موظف ورائد أعمال وعاملين لحسابهم، وتمثّل هذه العينة نحو 31% من القوى العاملة في لبنان، وتبلغ قيمة مداخيلها المصرّح عنها نحو 6.8 مليار دولار، أي 13.8% من إجمالي الناتج المحلي. واعتبرت الدراسة أن متوسط الأجر السنوي للعينة يساوي 14.9 ألف دولار، في حين أن حصة الفرد من الناتج الإجمالي المحلي في لبنان 11.067 دولار.
تظهر نتائج الدراسة أن 59% من دافعي الضرائب (أي الذين يحققون مداخيل لا تصل إلى 15 مليون ليرة سنوياً) يحصلون على 22% (1.49 مليار دولار) من مجمل الأجور، في حين يحقق 2% من دافعي الضرائب 17% (1.15 مليار دولار) من إجمالي الأجور.
تضعنا هذه الأرقام بالمرتبة 129 من أصل 141 بلداً في معيار جيني للامساواة في الدخل، حيث يكون مؤشر جيني (قبل الضرائب) للبنان 50.7. وتنبّه الدراسة من أن ذلك لا يعكس اللامساواة في لبنان بشكل كلّي، بل يقتصر الأمر على القطاع الخاص. وتقوم الدراسة، لأسباب غير مقنعة، باعتبار أنه يمكن خفض مؤشر جيني للامساواة من 50.7 إلى 45.3 عبر نقل شريحة دافعي الضرائب الذين يحققون أقل من 6 ملايين ليرة سنوياً إلى الشريحة التي تليها (6 ملايين ليرة إلى 15 مليوناً). وتبرر ذلك بالقول إن الحد الأدنى للأجور في لبنان أعلى من 6 ملايين ليرة (8.1 مليون ليرة) ولذلك اعتبرت أنه بإمكانهم الافتراض أن هذه الشريحة تعلن عن أقل مما يحققون. مع أنها تعود وتذكر أن الدراسة تتضمن العاملين في وظائف دوام جزئي، والمياومين، والذين يعملون بالساعة (ويمكننا إضافة شريحة كبرى من العمّال الأجانب، لا سيما النساء منهم)، واعتبرت أنه من الممكن أن تكون مداخيل هؤلاء أقل من الحد الأدنى. هذا بالإضافة إلى العاملين في مجالات تعد خارج أطر الاقتصاد النظامي، إذ أنه بحسب معلومات منظمة العمل الدولية، نصف هؤلاء يحققون أقل من الحد الأدنى للأجور.

="" title="" class="imagecache-2img" />
للصورة المكبرة انقر هنا





البرجوازية المستأجرة

قد يفيد وضع هذه التفاوتات بين العاملين على مستوى الدخل في إطار نظري مناسب. يعتبر الفيلسوف السلوفيني، سلافوي جيجك، أن الرأسمالية القديمة كانت تتضمن، بشكل مثالي، رائد الأعمال الذي استثمر ماله (أو مبلغاً اقترضه) في عملية أنتاج ينظمها ويديرها، ثم يجني الأرباح منها. أما الآن، فإنه لم يعد النموذج المثالي رائد الأعمال الذي يملك الشركة، بل تحول المشهد نحو الإداري المختص (أو مجلس إدارة يقوده مدير تنفيذي) الذي يدير شركة تملكها مجموعة من المستثمرين أو مصرف ما (يدار أيضاً من قبل إداريين مختصين). في إطار هذا النموذج من الرأسمالية، تقتصر وظيفة البرجوازية القديمة، التي كانت تدير الأعمال، على إدارة الرواتب، ومنها ما تتقاضاه البرجوازية الجديدة مقابل إدارتها أعمال المستثمرين، وإن حصلوا على أسهم في الشركة (على شكل مكافآت).
هذه البرجوازية ما زالت تستفيد من فائض القيمة، ولكن على نحو ما يسمّى "فائض الدخل". ويتقاضى هؤلاء أجوراً تفوق الحد الأدنى للأجور.
هكذا يرى جيجك أن البرجوازية بمعناها الكلاسيكي تختفي: يعود الرأسماليون على شكل فئة من العمّال المأجورين، كمدراء مؤهلين بحكم مؤهلاتهم لتقاضي أجور أعلى من باقي العمّال. ولا تقتصر المسألة على المدراء كفئة عمالية، بل تتضمن فئة العمال الذين يحققون فائض دخل موظفي القطاع العام، الأطباء، المحامين، والأكاديميين وغيرهم. ويتخذ الفائض هيئتين بحسب جيجك: مال أكثر (خاصةً للمدراء)، ووقت فراغ أكثر (للمفكرين وموظفي الدولة).
ومن الضروري، كي ترسّخ هذه التفرقة بين عمّال يحققون فائض دخل وغيرهم الذين لا يراكمون في غالب الأحيان إلّا الديون، أن يعتمد منهج "علمي مزيّف" يصنع من الاختلاف في طبيعة العمل معياراً لحجم الدخل الذي يستحقه العامل. آلية اختيار من يستحق أن يحقق فائض دخل ليست اقتصادية بل هي آلية أيديولوجية سياسية اعتباطية لا علاقة مباشرة بينها وبين الكفاءة، هدفها الحفاظ على طبقة وسطى من أجل الاستقرار الاجتماعي.
يكون الرد الأيديولوجي على هذا التحليل، رداً شعبوياً، "هل أشقى سنين طويلة في الجامعة والعمل ليحقق عامل النظافة راتباً يعادل راتبي؟!" وفي حين قد يرى المعترض منطقه مطلق، يظهر لنا عالم الاجتماع الإيطالي، موريزيو لازاراتو، أن هذا المنطق رأسمالي، يجعل من الفرد استثماراً ذاتياً كلّما ارتفعت قيمة الاستثمار تزداد قيمة الفرد في السوق. هذا يعني أن الاعتراض هنا رأسمالي يأتي من داخل المنظومة الأيديولوجية لا من خارجها كقيمة مطلقة.