د. نقولا سركيس
غريب هو هذا اللغط المفاجئ حول ضرورة الشفافية في قطاع البترول والغاز، وغريب هو تكاثر الأصوات التي تعالت أخيراً للمناداة بهذه الشفافية بعد إقرار المراسيم البترولية في مطلع هذا العام، والتي لم يكن يسمعها أحد طوال سنوات التعتيم التام على مضمون هذه المراسيم، أي على كل شروط استثمار الثروة الموعودة.

ومن أغرب وأطرف ما في الموضوع هو أن المسؤولبن عن هذا التعتيم هم اليوم في طليعة المنادين بالشفافية، بعد إقرار المراسيم المذكورة على جناح السرعة في أول جلسة عقدتها الوزارة الجديدة، وأصبح البعض يعتبر أن ما جاء في هذه المراسيم من انحرافات ومغالطات أصبح «شرعياً» وأمراً واقعاً لا مجال للبحث فيه، ناهيك عن تصحيحه.
إن كان بديهياً أن الشفافية في قطاع البترول والغاز، كما في غيره، ضرورة ملحة لمكافحة النهب والفساد، فالسؤال المطروح اليوم هو بكل بساطة؛ هل الحاجة إلى الشفافية تنطبق على كل التدابير الخاصة باستثمار البترول والغاز، بما فيها النصوص والتدابير التشريعية والتنظيمية وغيرها التي اتخذت حتى الآن، أم أنها تنطبق فقط من الآن فصاعداً على التدابير المستقبلية للتأكد من مطابقتها للنصوص التي تم إقرارها، بكل ما فيها من شطحات وتزوير صارخ للنص التشريعي الوحيد الذي وضعته السلطة التشريعية المختصة، أي المجلس النيابي، ألا وهو «قانون الموارد البترولية في المياه البحرية» الرقم 132 تاريخ 24 آب 2010.
تعود أهمية هذا السؤال الجوهري الى أن شروط الاستثمار، التي يتضمنها «المرسوم التطبيقي» الرقم 43 الخاص بنموذج اتفاقيات الاستكشاف والإنتاج (ntExploration and Production AgreemeEPA)، تقف على طرفَي نقيض مع المبادئ الأساسية التي ينص عليها القانون البترولي. ومن أهم هذه المبادئ ما جاء في المواد الأولى من القانون، منها المادة 3 حيث نقرأ: «يهدف هذا القانون الى تمكين الدولة من إدارة الموارد البترولية في المياه البحرية»، أو المادة 4 ونصها: «تعود ملكية الموارد البترولية والحق في إدارتها حصراً للدولة»، أو ما تنص عليه المادة 6 تحت عنوان «مشاركة الدولة»: «تحتفظ الدولة بحق القيام أو المشاركة في الأنشطة البترولية». وهذه كلها مبادئ أساسية يقوم عليها نظام الاستثمار المعروف عالمياً بنظام تقاسم الإنتاج، ولم يكن من المستغرب أن يتبنى المشرع اللبناني هذه المبادئ وهذا النظام لأنه النظام الأكثر رواجاً في العالم ولأنه يتماشى مع وضع لبنان، شأنه في ذلك شأن غيره من البلدان النامية التي تود التعاون مع شركات أجنبية تملك الخبرة والرساميل اللازمة لاستغلال ثرواتها، ولكن في إطار علاقة تعاقدية تضمن لها صيانة سيادتها الوطنية وحقوق ملكية البترول والغاز المكتشف، والمشاركة الفعلية في استثمار هذه الثروات، عبر شركة نفط وطنية، وبشكل يؤمن تدريب الكوادر الوطنية ومراقبة الأنشطة البترولية وتدقيق حسابات الشركات العاملة، من الداخل، مع العلم بأن من الأفضل فتح رأسمال الشركة الوطنية، ضمن شروط معينة، لمساهمة كل اللبنانيين. هذا ما فعله العديد من شركات النفط الوطنية في العالم، وهذا ما سمح بتطوير شركات نفط وطنية أصبحت تحتل مكان الصدارة بين الشركات العالمية.

الشروط المالية المعتمدة هي الأسوأ في العالم، ما يهدد بخسارة المليارات من الدولارات


إلا أن الأمور في لبنان انقلبت لسوء الحظ رأساً على عقب منذ عام 2013، عندما جاءت المراسيم المفترض أن تكون «تطبيقية»، وخاصة مرسوم EPA الرقم 43، لتهدم ما بناه القانون 132/2010، وذلك عن طريق أحكام مناقضة لمبادئ القانون الأساسية المذكورة أعلاه. وهكذا جاءت المادة 5 من المرسوم لتعلن بالحرف الواحد أنه «ليس للدولة مشاركة في دورة التراخيص الأولى»، وتليها المادة 16 الخاصة بلجنة إدارة الشركات العاملة لتتكرم بالإشارة الى أنه «يمكن للوزير ولهيئة إدارة قطاع البترول تعيين ممثلين يكون لهم الحق بالحضور كمراقبين» في بعض اجتماعات لجنة الإدارة، ولكن «لا يحق للوزير ولا لهيئة إدارة قطاع البترول حضور اجتماعات اللجان ومجموعات العمل» التي يشكلها أصحاب الحقوق، أي الشركات العاملة، في ما بينهم! هذا الى جانب أحكام وتدابير أخرى من أغربها المرسوم الرقم 9882 تاريخ 16 شباط 2013 الذي أعلن رسمياً قبول التأهيل لمجموع 46 شركة يمكنها الحصول على حقوق استكشاف وإنتاج، منها حوالى 15 شركة كبرى يمكنها القيام بهذه الأنشطة في المياه العميقة، فضلاً عن شركات متوسطة أو صغيرة، وشركات أخرى سبقت الإشارة بإسهاب على هذه الصفحات الى كونها شركات ملاحقة قضائياً بتهم الاحتيال والفساد، أو شركات لبنانية صورية لا جود لها سوى على الورق، ولا حاجة إلى تفسير المقصود منها. أخيراً لا آخراً، حصر دفتر الشروط حق طلب حقوق الاستكشاف والإنتاج بـ»شراكة تجارية غير مندمجة» مؤلفة على الأقل من ثلاث شركات «مؤهلة»؛ منها شركة مشغلة (Operator) بحصة 35% على الأقل، وشركتان غير مشغلتين (operators-Non) بحصة 10% على الأقل لكل منهما. وهذا كله دون أدنى إشارة لحق شركة حكومية في طلب الحقوق نفسها. وهذا يعني بتعبير آخر أن بعض موظفي الدولة ممن تعاونوا مع مستشارين أجانب مجهولي الهوية، وممن أنعمت عليهم الدولة بما لم تنعم به على أحد غيرهم، قرروا من دون سابق إنذار، ودون إذن أحد، طرد الدولة برمتها من مواقع المسؤولية والإدارة التي تعود لها في هذا القطاع الحيوي، ليضعوا مكانها مصالح خاصة تفرض على الشركات الكبرى «المشغلة»، وتتم عن طريقها عملية نهب مبرمجة و»قانونية» للثروة الموعودة. وهكذا، ونتيجة لهذه الهندسة البهلوانية تطير المبادئ التي يقوم عليها القانون البترولي، ويطير معها تلقائياً نظام تقاسم الإنتاج، ليحل محله نظام فريد من نوعه يختلف اسمه باختلاف الظروف، وهو أقرب ما يكون إلى عودة مقنعة لنظام الامتيازات القديمة. هذه كلها أحكام لا علاقة لها بنظام تقاسم الإنتاج، ولا بالمبادئ الأساسية التي نصت عليها مواد القانون المشار إليها أعلاه. بل إنها، كي نسمي الأمور بأسمائها، مجرد «شطارات» لتفصيل ثوب على قياس البعض، وخياطته، كما يقال بالفرنسية، بخيط أبيض غليظ.
قد يكون أعجب ما في الموضوع أن الانحرافات والشطحات المذكورة بلغت درجة أن المسؤولين عنها وقعوا في فخ التناقضات في ما بينهم. ففي حين يردد رئيس هيئة البترول أن لا فرق بين نظام تقاسم الإنتاج وتقاسم الأرباح، يؤكد الوزير الحالي أن النظام الذي اختاره لبنان هو نظام تقاسم الإنتاج، نقطة على السطر، كما عاد وكرر ذلك خلال مساءلة الحكومة في المجلس النيابي في 7 نيسان الماضي. أما مدير الدائرة الاقتصادية في هيئة البترول، فقد فسر طويلاً خلال مقابلة نشرت في النهار في 17 نيسان 2015، أن النظام اللبناني هو «نظام وسطي» قائم بذاته، إذ إنه «يجمع ما بين نظامَي الامتياز والتعاقد» (كذا)، وقد كرر المسؤول نفسها في المقابلة المذكورة أن نظام الاستثمار المعتمد في لبنان «مقتبس» من النروج! وهذا ما دفع كاتب هذه السطور إلى توجيه رسالة مفتوحة لسفير النروج في لبنان ليسأله عما إذا كان ثمة وجه شبه، ولو من البعيد البعبد، بين ما حصل في النروج وما يحصل عندنا، بما في ذلك نصوص تشريعية وضعها بعض مجهولي الهوية، من دون علم المجلس النيابي، أو تأهيل شركات وهمية برأسمال 1,290 دولاراً، وغير ذلك من الغرائب. وقد نشرت هذه الرسالة كما نشر الجواب الكافي والوافي في جريدة السفير تاريخ 23 تموز 2015. أضف الى ذلك أن الشروط المالية المعتمدة هي من الأسوأ في العالم، إن لم تكن أسوأها على الإطلاق، ما يهدد بخسارة المليارات والمليارات من الدولارات، وأن تغييب الدولة عن الأنشطة البترولية يجعل من مراقبي الحكومة كالأطرش في الزفة، ويفقد كل معنى للكلام عن أرباح الشركات ومراقبة حجم إنتاجها وحساباتها.
فهل من المعقول، وهذه هي الحال، أن ندخل عصر البترول ونرتبط باتفاقيات تمتد على ما يقارب أربعين عاماً مع شركات عملاقة، في حين أن المسؤولين عن هذا القطاع لم يتفقوا بعد في ما بينهم حتى على اسم وتصنيف وطبيعة نظام الاستثمار المعتمد. لا يمكن لأحد بالطبع أن يطلب من الرئيس سعد الحريري أو من أي مسؤول سياسي آخر أن يكون خبيراً في الفيزياء أو الطب أو الاقتصاد البترولي. إنما من واجب ومن مبررات وجود مستشاريه أو وزرائه أن يوضحوا له، كل حسب اختصاصه، معطيات وتبعيات قضايا من صميم المصلحة الوطنية. وإن كان لدى أي مسؤول أدنى شك حول طبيعة نظام الاستثمار البترولي المعتمد عندنا، فليس من الصعب طلب رأي أي مسؤول في واحدة من أكثر من 70 دولة عربية وغير عربية في العالم تمارس منذ عشرات السنين نظام تقاسم الإنتاج لمعرفة إذا كانت أحكام المرسوم EPA تتطابق وهذا النظام. كما يمكن لأي لبناني أن يخصص بضع دقائق للعودة الى Google كي يجد تعريف وتفاصيل كل نظام والفروقات الشاسعة بين نظام وآخر.
أما القول إن مبرر وجود المادة 35 من المرسوم EPA حول «الالتزام بالسرية» هو حماية بعض «المعطيات الفنية» لهذه الشركة أو تلك، فإنه يتعارض مع النص الحرفي للمادة نفسها التي تذكر أصلاً أموراً كثيرة، إلا كلمتي «معطيات فنية»، كما أنه يترك السؤال مفتوحاً حول ما ستؤول إليه «المزايدة» الثنائية والسرية (والبالغة الخطورة) بين ممثلي هيئة البترول وكل شركة على حدة، لتحديد السقف السنوي لاسترداد النفقات الرأسمالية (المادة 23) وتحسين حصة الدولة من الأرباح (المادة 24). أخيرا لا آخراً، في ما يخص الإعلان عن نية طلب لبنان الانتساب إلى مبادرة الشفافية في الصناعات الاستخراجية ( EITI)، فالمرجو أن تتحقق بأسرع ما يمكن، مع الأمل أن يتم قبول هذا الطلب وتعطينا المنظمة المذكورة رأيها حول مسيرة قضية البترول والغاز عندنا قبل إقرار المراسيم وبعده.
بانتظار ذلك، يكفينا هدر للوقت وللسنين، وتكفينا المتاجرة بالشفافية كوسيلة جديدة للتشويش والتضليل والتحايل على القانون البترولي، كما يكفينا الخطأ الكارثي الذي حصل عام 2007 عند ترسيم الحدود البحرية مع العدو الإسرائيلي والذي ما فتئ بعض المسؤولين، وفي طليعتهم الرئيس نبيه بري، يبذلون قصارى جهدهم لإيجاد حل سلمي له. أما اليوم، فلا يجوز ولا يحق لأحد ارتكاب خطأ آخر لا يقل عنه فداحة، عبر استباحة حقوق اللبنانيين وآمالهم، لخدمة بعض السماسرة والمصالح الخاصة، على حساب سياسة نفط وطنية تمليها أولاً وأخيراً مصلحة كل مواطن لبناني دون سواه.