تعدُّ الأرباح الإضافيّة التي حقّقتها شركات استيراد النفط وتوزيعه منذ عام 2002، وقدّرت بنحو 21.6 مليون دولار أميركي بين عامي 2013 و2016، من الفضائح الأكثر إثارة في الجمهوريّة اللبنانيّة، لا لجهة قيمة هذه الأرباح التي حققتها الشركات بصورة غير مشروعة، والتي نجمت عن وضع يدها على مال عام عبر تحويل قيمة رسم جمركي ملغى الى ربح، بل لأن ذلك يحصل منذ سنوات تحت أعين المسؤولين الحكوميين المعنيين في الإدارات والوزارات، ولا سيما مجلس الوزراء، من دون اتخاذ أي إجراء حتى الآن لحذف قيمة هذا الرسم من جدول تركيب أسعار المشتقات النفطية واستعادة الأموال عن الفترة السابقة، وهو ما يطرح علامات استفهام كبيرة، يجب على القضاء وأجهزة الرقابة الإجابة عنها!
بحسب مستندات حصلت عليها "الأخبار"، وتشكّل قسماً من مجموعة مراسلات داخليّة مُرسلة، يتبين أن خيوط "الجريمة" ظهرت منذ عام 2013. إذ إن المشتقّات النفطيّة استفادت من أحكام اتفاقيّة الـEuro1، التي وقّع عليها لبنان في عام 2002، وتم إعفاؤها كلياً من الرسم الجمركيّ على السلع المستوردة من الاتحاد الأوروبي اعتباراً من عام 2013، استناداً إلى القرار الرقم 1736 الصادر عن المجلس الأعلى للجمارك. واقع سمح للشركات المُستوردة للمحروقات بتحقيق أرباح إضافيّة غير مشروعة، إضافة إلى مبالغ أخرى غير محدّدة حقّقتها بين عامي 2002 و2013 بنتيجة الإعفاء التدريجي المنصوص عليه بموجب الاتفاقيّة نفسها، وتقدّرها مصادر مطّلعة على الملف بنحو مليوني دولار أميركي.
هذا الواقع مستمرّ حتى اليوم، على الرغم من أن المجلس الأعلى للجمارك يبحث فيه منذ عام 2014. وبحسب المستندات المتاحة، أحاله الى مصلحة الدراسات فيه، التي أصدرت تقريرها واعتبرته يندرج ضمن خانة "الإثراء غير المشروع"، وصدر رأي استشاري عن ديوان المحاسبة يقول بوجوب تحرّك وزارة المال لإصدار أوامر تحصيل من الشركات واستعادة أموال الناس.

محاسبة الشركات

في جلسة مجلس الوزراء المُنعقدة في 8/2/2017، أثار رئيس الجمهوريّة العماد ميشال عون، من خارج جدول الأعمال، وبناءً على معلومات سُلّمت له من وزير الدولة لمكافحة الفساد، نقولا التويني، موضوع استفادة شركات استيراد المحروقات وتوزيعها، من هامش أرباح إضافيّة تتخطّى الـ5% من تعرفة الرسم الجمركي (وتبلغ 73 ليرة عن كلّ صفيحة بنزين عيار 95 أوكتان، و134 ليرة عن كل صفيحة بنزين عيار 98 أوكتان) المُعفاة منه أساساً بموجب اتفاقيّة الشراكة مع الاتحاد الأوروبي. وطلب عون من التويني متابعة الموضوع مع الوزارات والإدارات المعنيّة، كون كلّ ما يتطلّبه الأمر هو إلغاء الرسم الجمركيّ عن جدول تركيب الأسعار واستعادة الأموال المحصّلة من دون وجه حقّ.
على الرغم من ذلك، بقي الجدول من دون تعديل، وبقيت الشركات تستوفي قيمة الرسم الجمركي وتحوّله الى أرباحها. الإجراء الوحيد المُتخذ حتى الآن، لا يلبي صراحة توجيهات رئيس الجمهوريّة بوضع حدّ بأسرع وقت لهذا الأمر، إذ صدر القرار الرقم 32 عن وزير الطاقة والمياه سيزار أبي خليل في 13/2/2017، الذي حدّد فيه سعر مبيع المحروقات السائلة متضمّناً الرسم الجمركي، مضيفاً إليه ملاحظة يلفت فيها إلى أن "هذا الرسم على مادة البنزين الذي تستوفيه شركات التوزيع غير قابل للتحصيل من قبلها وفقاً للاتفاقيّات الدوليّة مع الاتحاد الأوروبي والدول المنضوية إلى اتفاقيّة التيسير العربيّة". وأرفق قراره بالكتاب الرقم 693/و، الذي وجّهه إلى مجلس الوزراء لإدراجه على جدول الجلسة المُقبلة، ويتضمّن دراسة تقترح إلغاء الرسم الجمركيّ على البنزين، والتعويض على المستهلك الأموال التي دفعها واستوفتها الشركات باعتبارها أرباحاً مشروعة لها.

يرى مارون الشمّاس أن استيفاء الرسم الجمركي المُعفى منه
جزء من أرباح الشركات


إثراء غير مشروع!

كيف نشأت القضية؟ تفيد المستندات، أنه في أيار 2014 وردت اتصالات هاتفيّة إلى مديريّة الجمارك العامّة، تفيد بأن "جداول تركيب أسعار مبيع المحروقات السائلة تُبنى على معطيات غير دقيقة لجهة مقدار الرسوم التي تشمل الرسم الجمركي ورسم الاستهلاك الداخلي والضريبة على القيمة المُضافة، من دون أن تؤخذ في الحسبان استفادة المحروقات المُستوردة من الدول العربيّة والدول الأوروبيّة من الإعفاء أو من التخفيض في الرسم الجمركي، عملاً بأحكام اتفاقيّة التيسير وتنمية التبادل التجاري بين الدول العربيّة، واتفاق الشراكة مع الاتحاد الأوروبي، والاتفاق المعقود مع دول "الإفتا"، ما يجعل حصيلة الرسوم المُبيّنة في جداول تركيب الأسعار غير صحيحة". وهو ما أوردته مديريّة الجمارك العامّة في الكتاب الرقم 64/ سري تاريخ 23/5/2014، وأحالته إلى مصلحة الدراسات في المجلس الأعلى للجمارك، الذي أصدر تقريره في 8/8/2014 ويشير فيه إلى وجود مبالغ ماليّة تذهب إلى شركات توزيع المحروقات زيادة عن حصّتها المحدّدة في جدول تركيب أسعار مبيع المحروقات السائلة. واقترح رئيس مصلحة الدراسات خليل الخوري معالجة الموضوع على مرحلتين، تقوم المرحلة الأولى على استدراك الثغرة الحاصلة، من خلال لفت نظر وزارة الطاقة والمياه إلى الربح الإضافي الذي حقّقته شركات التوزيع، وطلب إيداعها جداول مفصّلة من دائرة المستودعات تبيّن المبالغ المُجباة والشركات المستفيدة، ومن ثمّ إصدار أوامر تحصيل بحقّ هذه الشركات سنداً إلى المادّة 45 من قانون المحاسبة العموميّة التي ترعى كيفيّة تصفية وتحصيل ديون الدولة ووارداتها من ضرائب ورسوم وغيرها، على أن تشمل المرحلة الثانية معالجة المشكلة في شكل جذريّ من خلال تصفير الرسم الجمركيّ ودمجه برسم الاستهلاك الداخلي وعرض الموضوع على وزارة الماليّة، ما يعني شطبه صورياً من جدول تركيب الأسعار وإضافته إلى رسم الاستهلاك من دون إلغائه فعلياً.

تجمّع شركات النفط: هذا حقّنا!

تكمن الإشكاليّة بحسب الرأي الاستشاري الرقم 25/2015 الصادر عن ديوان المحاسبة. أولاً، بتحقيق هذه الشركات مداخيل تجاوزت الحصّة المقرّرة لها في جدول تركيب الأسعار، عبر استيفائها رسماً جمركياً (وهو عبارة عن ضريبة غير مباشرة تترتب على المستهلك) غير مدفوع من قبلها، أدخلته في سعر المبيع. ثانياً، تحميل المُستهلك رسماً لم تدفعه الجهة المستوردة بدل استفادته من الاتفاقيّات الدوليّة، وتحويله إلى ربح إضافي لها، رغم علمها المُسبق بمقدار حصّتها المحدّدة في جدول تركيب الأسعار. ثالثاً، اعتبار الاستفادة من الرسم الجمركي حقّاً من حقوق الدولة، والإعفاء منه حقاً من حقوق المستهلك.
إلّا أن رئيس تجمّع شركات النفط في لبنان مارون الشمّاس، لا يرى أن استيفاء هذه المبالغ تمّ من دون وجه حقّ لتحقيق أرباح غير مشروعة لمصلحة الشركات، بل يصرّ على اعتباره أمراً قانونياً، وأن "ديوان المحاسبة ليس ذا صفة لإبداء الرأي في ما يتعلّق بأعمال شركات استيراد النفط"، ويضيف الشمّاس: "نحن من نستورد النفط، ونحن من يطالنا الإعفاء من الرسم الجمركي، لا المُستهلك الذي يأخذ حقّه بحصوله على نوعيّة ممتازة، وهذا يصبّ في إطار تعزيز التبادل التجاري مع أوروبا وعنصر المنافسة، وتالياً ما الفرق الحاصل بموجب الإعفاء إلّا جزء من أرباحنا". ويتابع الشمّاس: "نحن متفاجئون من تحريك الملف بعد ثلاث سنوات من بدء استفادتنا من الإعفاء الكليّ المنصوص عليه بموجب اتفاقيّات عقدتها الجمهوريّة اللبنانيّة، التي هي نفسها تحدّد وتضع جدول تركيب الأسعار الذي نلتزم بتفاصيله كتجمّع شركات، وتالياً من غير الجائز اعتباره إثراءً غير مشروع ومطالبتنا بإعادة مبالغ هي من حقّنا. وإن كان هناك من خطأ في الجداول الصادرة، فهذا جزء من مسؤوليّة الدولة وأجهزتها المعنيّة، لأن ما قمنا به كان بعلم الوزارات المعنيّة، ولم نغشّ أو نخالف القوانين الصادرة والمرعيّة الإجراء".

تواطؤ على حساب المستهلك

تخضع مادة البنزين 98 أوكتان لرسم جمركي بقيمة 6500 ليرة لبنانيّة لكل كيلوليتر (الكيلوليتر يساوي ألف ليتر)، ورسم استهلاك داخلي بقيمة 217 ألف ليرة لبنانيّة لكل كيلوليتر، و10% ضريبة على القيمة المُضافة. أمّا مادة البنزين 95 أوكتان فتخضع لرسم جمركي بقيمة 3500 ليرة لبنانيّة لكل كيلوليتر، ورسم استهلاك داخلي بقيمة 223 ألف ليرة لكل كيلوليتر، و10% ضريبة على القيمة المُضافة.
عملياً، تتقاسم المسؤوليّة كل من وزارة الطاقة والمياه التي يصدر عنها جدول تركيب أسعار المشتقات النفطية، والتي لم تتخذ سابقاً أي إجراء لتصحيح الجدول ومنع التمادي في ما يحصل. ووزارة المالية التي تتحمل مسؤولية عدم إصدار أوامر التحصيل من الشركات ومسؤولية جباية الضرائب والرسوم، ومن ثم مجلس الوزراء، كون صلاحيّة التشريع في الحقل الجمركي (تعديل أو فرض أو إلغاء الرسوم الجمركيّة) مُناطة به بموجب تفويض منحه إياه مجلس النواب وفقاً للمادة 41 من قانون الموازنة الصادر عام 2001، وأعيد تفويض هذه الصلاحيّة إلى المجلس الأعلى للجمارك (يتبع لوزارة الماليّة) بموجب المرسوم 398/2010 (يجدّد سنوياً) مع اشتراط موافقة مجلس الوزراء على أي إجراء جمركي. إضافة الى وزارة الاقتصاد المسؤولة عن مراقبة الأسعار ومكافحة الغش.
يشير المحامي وديع عقل إلى "أن الضرائب لا يمكن فرضها على المواطن إلّا بقانون، وتالياً ما تقوم به الشركات هو أشبه بفرض خوّة على المُستهلك، حقّقت بموجبه 21 مليون دولار أميركي وفق جداول 2013 و2016، ومبالغ أخرى خلال سنوات سابقة، وهي أرباح تواصل تحقيقها منذ بداية العام 2017 حتى اليوم"، ويضيف عقل: "هناك إصرار رئاسي على استعادتها، وخصوصاً أن ذلك تمّ إمّا بتواطؤ أو إهمال من أجهزة الرقابة والوزارات والإدارات المعنيّة، وهو ما ينطبق عليه جرم استيفاء ضرائب من دون وجه حقّ لعدم وجود مرسوم صادر عن مجلس الوزراء، إضافة إلى وجود إثراء غير مشروع، وهي جرائم تستوجب تحرّك النيابة العامّة، وصدور أمر تحصيل من وزارة الماليّة لاسترداد هذه المبالغ لمصلحة الإدارة وإعادة استعمالها بما يعود بالنفع العام".
لكن، ما هي الآليّة التي ستستردّ بموجبها الأموال؟ تشير معلومات "الأخبار" إلى طرح مجموعة من الحلول، يقضي التوجّه الأوّل بدمج الرسم الجمركي برسم الاستهلاك الداخلي، ما يعني عدم إلغائه فعلياً، يقابله طرح آخر يقضي بإلغاء الرسم الجمركي على مادة البنزين كلياً، على أن يتبع ذلك استعادة الأموال التي حقّقتها الشركات عبر تخفيض أرباحها بنسبة 0.5% في جدول تركيب الأسعار الصادر أسبوعياً لحين جباية الأموال كافًة. في المقابل، يشير عقل إلى أن "هناك إصراراً على إصدار أوامر تحصيل من الشركات المُستفيدة لاستيفائها دفعة واحدة" كون جداول الجمارك واضحة وتحدّد الكمّيات الواردة ومنشأَها.






الشركات المعنية

تتحكّم خمس شركات بسوق استيراد النفط، وتستحوذ على غالبيّة الحصّة السوقيّة، وهي "كورال" المملوكة من السعودي محمد العامودي (اشترتها أخيراً شركة "ليكويغاز" المملوكة لأفراد من آل يمّين)، وشركة "توتال" الفرنسيّة، وشركة "ورديّة" المملوكة من السعودي سموأل بخش ومصرف عوده، و"هيبكو" المملوكة من آل البساتنة (ويملكون أيضاً 60% من شركة "كوجيكو" المملوكة من وليد جنبلاط) وشركة "مدكو" المملوكة من مارون الشمّاس.