ما كادت حكومة سعد الحريري تقرّ في أولى جلساتها مرسومين كانت حكومة تمام سلام قد رفضت الموافقة عليهما على الرغم من كل الضغوط التي مورست عليها، حتى انهالت تصاريح المسؤولين الجدد حول تسريع الخطى اللازمة لعقد اتفاقيات استكشاف وإنتاج مع الشركات الأجنبية.
هذا كله دون أن يتم الإفصاح عما إذا كان هذا التبدل المفاجئ يعود لتحسين أحكام المرسومين أو نتيجة "تفاهمات سياسية" أفضت الى تشكيل الحكومة الجديدة. ونظراً إلى أن هذا التفسير الأخير هو الصحيح، فمن الطبيعي أن يتساءل اللبنانيون عن طبيعة الخلافات السياسية التي كانت قائمة وعن نوعية "التفاهمات" التي وضعت حداً لها.
المواطن اللبناني يتساءل عما حدث، لكنه يعلم أنه يعيش في بلد تتحدث فيه وسائل الإعلام يومياً عما يسمى "المحاصصة"، أي تقاسم العمولات والغنائم بين محترفي السياسة، وعن تفاهمات كثيرة أخرى ليست من نوع الأمور التي يتم تسجيلها لدى كاتب العدل. كما يعلم أن المحاصصة على الطريقة اللبنانية كانت وراء فضائح الفساد التي تفجرت الواحدة بعد الأخرى، من النفايات إلى الاتصالات، مروراً بالماء والكهرباء وتلوث البيئة وغيرها وغيرها. وإن كان الفاسدون والمفسدون لم يتورعوا عن الرشى والمحاصصة حتى في أمور تطال وتهدد صحة وسلامة المواطنين، فليس من المستغرب أن تتجه أنظارهم إلى مليارات الثروة النفطية الموعودة، بعد أن شحّت مصادر الإثراء غير المشروع في بلد مثقل بأزمات اقتصادية حادّة ودين عام يتجاوز 77 مليار دولار، أي ما يقارب 150% من الناتج المحلي، وهي نسبة تشكل ضعف ما يعتبر عادة خطاً أحمر بالنسبة إلى الاقتصاد الوطني. لذلك فالخوف كل الخوف هو أن يتفاقم الفساد وأن تتحول آمال ثروة البترول والغاز إلى لعنة تزيد السوء سوءاً في بلد يحتل مرتبة غير مشرفة على سلم الفساد، إذ صنفه مؤشر الفساد في العالم CPI لعام 1916 في المرتبة 136 من مجموع 176 دولة، أي بزيادة عشر نقاط عما عليه قبل سنة. ولم يعد هذا مستغرباً بعد أن اختفت مفردات "المساءلة" و"المحاسبة" من القاموس السياسي والقضائي عندنا، وأصبح استغلال السلطة والسطو على المال العام أمراً عادياً ونوعاً من "الشطارة".
ومن البديهي أنه لم يكن للفساد في لبنان أن يتفشى بهذا الشكل المفجع لو كان ثمة حدٌّ أدنى من الشفافية التي تتيح للمواطن ولوسائل الإعلام الاطلاع على ما يجري من صفقات و"تفاهمات" لا أخلاقية أوصلتنا إلى ما نحن عليه. هذا صحيح بالنسبة إلى كلّ الفضائح التي أصبحت تفتك في كل أوجه حياتنا اليومية، والتي بدأت بوادرها تظهر في مسيرة صناعة البترول والغاز، وذلك قبل انطلاق هذه الصناعة، وحتى قبل التأكد من وجود هذه الثروة. بوادر تمثلت، على سبيل المثال، في كل عقود المسح البحري ثم البري والتي تمّ إبرامها بالتراضي مع شركات أجنبية دون استدراج عروض، خلافاً للقوانين المرعية، ودون معرفة الأسباب التي أدت إلى اختيار هذه الشركات دون غيرها، ودون معرفة حصة لبنان من بيع المعطيات (Data) التي تمّ الحصول عليها وكيف تم التصرف بهذه الحصة، وكيف تم توزيعها بين "الدولة" والشركات الأجنببة والسماسرة. كما تمثلت البوادر نفسها بشكل أوسع وأشد خطورة في التعتيم الذي خيّم على جوهر التشريع البترولي، أي المراسيم التي تتضمن كل شروط استثمار الثروة الموعودة، والتي حرم المواطن اللبناني حتى الآن من مجرد الاطلاع عليها. وفي طليعتها المرسومان اللذان تم إقرارهما مؤخراً على عجل من قبل وزراء لم يترك لمعظمهم أكثر من 48 ساعة ولو لمجرد قراءة نصوصهما التي تمتد صفحات أحدها على 201 صفحة والثاني على 270 صفحة. ولم يكن أصحاب السلطة التشريعية في البلاد أوفر حظاً من الوزراء الجدد، إذ أن هذا القسم الأساسي من التشريع البترولي لم يتم عرضه عليهم، ولم يطلب أحد رأيهم في موضوع هو من صلب صلاحياتهم دون أي إنسان آخر في الجمهورية اللبنانية. هذا مع العلم أن التشريعات البترولية في العالم تناقَش علناً داخل وخارج المجلس النيابي وتوضع بتصرف الجميع. أما عندنا فالموضوع يعالج وكأنه يتعلق بسر من أخطر أسرار أمن الدولة أو بتهريب المخدرات!

الموضوع عندنا يعالج
وكأنه يتعلق بسرّ من أخطر
أسرار أمن الدولة

طالما أنّ أهل مكة أدرى بشعابها، فلا شك أن أفضل تعبير عن هذا الوضع الفريد من نوعه قد جاء على لسان النائب محمد قباني، رئيس لجنة الأشغال والنقل والطاقة والمياه، عندما قال تحت قبة البرلمان في آب/أغسطس 2016: "إن أسوأ ما في مسيرة النفط والغاز الحالية هو الغموض الذي يحيط بالمعلومات ومحاولة إحاطتها في إطار من السرية، حتى على المجلس النيابي. وهذا أمر معيب يجب أن نخجل منه وننقلب عليه (...) كما أنه يلقي ظلالاً من الشك على هذا الملف (...) لن نقبل باستمرار هذا الغموض وهذه السرية المريبة وسنقوم بكلّ ما علينا من أجل ضمان حق الوصول إلى المعلومات، أي إلى الشفافية في قطاع الموارد البترولية"، قبل أن يضيف ما يكاد لا يصدق: "إننا وحتى الآن لم نحصل على معلومات حول المرسومين الموجودين لدى مجلس الوزراء، وهذا أمر مستغرب ومرفوض من مجلس النواب، وهو سلطة الرقابة العليا في البلاد".
هذا وبما أنه لا يوجد أصلاً إشارة أو مجرد تلميح إلى الشفافية في نصوص التشريع البترولي، فلا غرابة أن يقودنا ذلك إلى "السرية المريبة" التي يشكو منها رئيس لجنة الطاقة في المجلس النيابي، كما يشكو ويتخوف من عواقبها كل من أتيحت له إمكانية معرفة ولو جزء بسيط مما يجري في دهاليز مسيرة البترول والغاز عندنا. لا بل إن الأغرب والأخطر من ذلك هو أن السرية قد أصبحت واجباً تفرضه المادة 35 من المرسوم الخاص بنموذج اتفاقيات الاستكشاف والإنتاج الذي تم إقراره مؤخراً. تحت عنوان "الالتزام بالسرية"، تنص هذه المادة حرفياً: "يجب أن تبقى هذه الاتفاقية وجميع المعلومات والبيانات والتحليلات والتفسيرات والنتائج التي تم جمعها أو الحصول عليها والمتعلقة بالأنشطة البترولية أو الناتجة عنها بموجب هذه الاتفاقية سرية ولا يجوز إفشاؤها". كلمات تذكرنا بقسم "ميثاق الشرف" (Omertà) لبعض أصحاب "الأخلاق الرفيعة" في جزيرة ليست بعيدة عنا...
نتيجة لهذا الوضع المخالف لأبسط شروط الشفافية ومستلزمات التصدي للفساد، قام مؤخراً بعض أعضاء المجلس النيابي بصياغة مشروع قانون هدفه "دعم الشفافية في قطاع البترول". ويتضمن هذا المشروع شتى الوسائل اللازمة للنفاذ إلى المعلومات، كما يوصي بمختلف أنواع العقوبات التي يتعرض لها المسؤولون الذين لا يلتزمون بأحكامه... إلا أن أنه ليس من الأكيد أن مصير مشروع القانون هذا سيكون أفضل من مصير مشروع قانون آخر يرمي لرفع ضريبة الدخل على الشركات البترولية العاملة في مجالي الإنتاج والتصدير إلى مستوى يتماشى مع ما هو متعارف عليه في البلدان الأخرى، أو أفضل من قوانين مكافحة الإثراء غير المشروع، والتي عجزت حتى الآن عن مكافحة الغبار الذي تكدس عليها.
لكن الواقع هو أن الموضوع لم يعد مسألة قوانين نظراً إلى أن أساليب التحايل على القانون، خاصة في البلدان النامية كلبنان، بلغت درجة تجعل من السذاجة التفكير بأن سنّ تشريعات جديدة أو التعاون مع منظمات غير حكومية مختصّة بتحسين الشفافية، سيكون كافياً لمكافحة سرطان الفساد. وهذا ما دفع الدول الصناعية خلال السنوات الماضية لعقد اتفاقيات ترمي لدعم الشفافية عن طريق منع شركاتها الوطنية والشركات الكبرى المتعددة الجنسية من دفع الرشى لمسؤولين في دول أجنبية. وفي طليعة هذه الاتفاقيات تلك التي أبرمتها مجموعة الثماني دول الصناعية (G8) خلال اجتماع القمة الذي عقدته في حزيران 2013 في إيرلندا. إلا أن هذه الاتفاقية تبقى، بالنسبة إلى مكافحة آفة الفساد في صناعة البترول والغاز، أقل شمولاً وفعالية من تلك التي تم التوصل إليها في إطار منظمة التعاون والإنماء الاقتصادي بهدف محاربة الرشى لمسؤولين أجانب: (OECD Convention on Combating Bribery of Foreign Public Officials).هذه الاتفاقية، التي أصبحت تضم ما لا يقل عن 41 دولة صناعية، تنص على عقوبات جزائية ضد الشركات التي تسهم بشكل أو بآخر في عمليات فساد في هذه الصناعة. ومن اللافت أن هذه الاتفاقية أفسحت المجال لملاحقة شركة "شل" وشركة "ايني" الإيطالية المتهمتين، كما أعلن مؤخراً، بدفع رشوة 1,1 مليار دولار للحصول على البلوك البحري OPL245 في نيجيريا. ولقد تم دفع القسم الأكبر من الرشوة لرئيس الجمهورية آنذاك جوناتان كودلاك ووزير البترول السابق، عبر شركة صورية حسب منظمة Global Witness.
وإن كان مدى غيرة الدول الصناعية على مصالح الدول النامية، من خلال الاتفاقيات المشار إليها، غير واضح، فمن الأكيد أن هدفها الرئيسي هو تأمين الشفافية التي لا مفرّ منها لضمان المنافسة السليمة بين الشركات البترولية وحسن سير العلاقات الاقتصادية الدولية. والأهم من ذلك هو أن الشركات البترولية الكبرى أصبحت تخشى العقوبات الصارمة التي تنص عليها الاتفاقيات الدولية في هذا الصدد، بقدر ما تحرص على سمعتها وترفض الغوص في مستنقعات الفساد ونهب الموارد البترولية بالتعاون مع بعض المسؤولين في الدول النامية.