من المهم أن ندرك أن المشكلات البنيوية في لبنان هي مستوطنة ودائمة لأنها موجودة منذ الاستقلال وليست من مخلَّفات الحرب وحسب. ثمة نظرة، لا بل يقين منتشر على نطاق واسع، خصوصاً بين الرسميين، وقد أُشير إليه في «أفق 2000 للإعمار والإنماء» بأنه إذا أعدنا إرساء الظروف التي كانت سائدة في لبنان قبل 1975 (خصوصاً السلم وبعض الإعمار، ولا سيما في بيروت) يستعيد لبنان ازدهاره الذهبي، والنمو قوته السالفة. لكن هذا الاعتقاد السائد عن ازدهار لبنان قبل 1975 هو وهم أكثر منه واقعاً.
لقد تعزّز هذا الوهم وحُجِبت الحقيقة بفعل الأداء المالي القوي الذي حقّقه لبنان واستقرار الاقتصاد الكلي، اللذين تجلّيا في خلوِّه من دين القطاع العام، والفائض المستمر في ميزان المدفوعات، والعملة القوية. ولكن على الرغم من هذه الظروف الاقتصادية المؤاتية، على غير عادة، بعد الاستقلال وحتى 1975، كان النمو الاقتصادي في لبنان يساوي متوسط معدل النمو في الدول النامية في شكل عام، وحتى أقل منه في معظم دول الشرق الأوسط. كذلك، أخفق الاقتصاد اللبناني، على امتداد تاريخه الحديث، في خلق فرص عمل كافية للعدد الكبير من العمال الماهرين والأقل مهارة، فما كان عليهم إلا أن يتوجهوا نحو الاغتراب بحثاً عن العمل خارج لبنان، وخصوصاً في دول الخليج العربي.
النمو الاقتصادي والإنماء اللذان يقترنان مع زيادة مستدامة في الإنتاجية تُرافقهما عادةً تغيرات مهمة في بنية الإنتاج أو إجمالي الناتج المحلي. هناك ميزة لافتة في الاقتصاد اللبناني، وهي أن بنيته لم تتغيّر كثيراً في النصف الأخير من القرن الماضي (جدول 4). يظهر بوضوح غياب أي تغيير بنيوي في الاقتصاد خلال هذه الفترة الطويلة. فما عدا التراجع المعياري في حصّة الزراعة، كان التغيير اللافت الوحيد الزيادة الكبيرة في حصة الإدارة العامة منذ أوائل التسعينيات، التي تُطرَح علامات استفهام حول مدى إسهامها الفعلي في الإنتاج والإنتاجية. تكمن مشكلة الاقتصاد اللبناني البنيوية الأساسية في ضعف إنتاجيّته. اليوم بعد خمسة وعشرين عاماً على انتهاء الحرب في عام 1990، حجم الإنتاج للفرد (بأسعار ثابتة) أعلى بقليل مما كان عليه قبل عقود، أي في عام 1974. بغضّ النظر عن الأخطاء في التخمين وعن تحسّن نوعية الإنتاج، لا تزال الأدلة دامغة على ضعف إنتاجية الاقتصاد اللبناني وقواه العاملة حاضراً كان أو ماضياً.
زيادة إنتاجية العامل اللبناني أساسية لنمو اقتصادي وتنمية مستدامَين، ومن شأنها أن تعالِج ثلاثة احتياجات أساسية لتحقيق حيوية لبنان اقتصاديّاً وسياسيّاً:
1) تُسهم في زيادة المداخيل وتحسين مستوى المعيشة، وفي الوقت ذاته خفض الحاجة إلى تأمين وسائل لدعم الدخل من طريق المحسوبيات «الطائفية» والسياسية؛
2) تتيح تمويل مكوّنات العقد الاجتماعي الأساسية، بما فيها التربية والصحة ومستحقّات التقاعد؛
3) تخفّف من عبء الدين العام وتدفع المصارف إلى الانخراط من جديد في تمويل القطاع الخاص بدلاً من القطاع العام.
ثلاثة أسباب رئيسة - ليست مستقلة تماماً الواحد عن الآخر – تفسِّر الإنتاجية الضعيفة في لبنان:
• تدنّي مستويات المهارات والتحصيل العلمي
• قصور المؤسسات العامة
• المناطق المحرومة

1. تدنّي مستويات المهارات والتحصيل العلمي



انطبع الاقتصاد اللبناني منذ الاستقلال بتفاوت شديد في توزيع المداخيل والثروات


يُبيِّن جدول «بنية العمالة بحسب مستوى التحصيل» مستوى التحصيل العلمي لدى المستخدَمين اللبنانيين بحسب الدراسات الاستقصائية الوطنية الرسمية التي أجريت في الأعوام 1970 و1997 و2007. ترتبط المهارات العمالية، وبالتالي الإنتاجية، ارتباطاً كبيراً بالمستوى العلمي. في عام 1970، كان نحو 11% فقط من القوى العاملة في لبنان من المستوى الثانوي. وبحلول عام 2007، ارتفعت هذه النسبة إلى 43%. في الواقع، تدنّت نوعية التعليم في شكل عام في لبنان بصورة ملموسة خلال الحرب، أي من 1975 حتى 1990، وفي المرحلة اللاحقة، وخصوصاً في المدارس الرسميّة. وهذا التدني في نوعية التعليم في المدارس والجامعات واضح وموثَّق. هذا ما تؤكِّده الإنتاجية العمالية التي تُحتسَب عبر قسمة إجمالي الناتج المحلي بالأسعار الثابتة على عدد العمال، والتي لا تزال أقل مما كانت عليه مباشرةً قبل عام 1975.
ليس تدنّي مستويات المهارات والإنتاجية وليد مستوى تعليمي غير ملائم وحسب، بل إنه ناجم أيضاً، وفي شكل أساسي، عن قصور اقتصاد السوق أو المؤسسات الخاصة. لقد بقي عدد الأجراء بالمقارنة مع العمال المستقلين أو الذين يعملون لحسابهم الخاص، على حاله عملياً، أي نصف مجموع العمالة (جدول 5). فضلاً عن ذلك، فقط نحو ثلث العاملين في الاقتصاد اللبناني هم عمال نظاميون، أما الباقون فهم عمّال موقّتون أو موسميّون. يشكّل هذا النوع من العمالة عامل ضعف في بنية الاقتصاد اللبناني، ويؤثّر سلباً في تراكم الخبرة والمعارف في الشركات، وبالتالي يضعف إنتاجية العمل.

2. قصور المؤسسات العامة

تعاني مؤسسات الإدارة العامة في لبنان من القصور، كذلك فإنها غير ملائمة لبناء اقتصاد حديث ومنتج. ولا يُطبَّق في لبنان مفهوم الخدمة العامة ودعم المؤسسات الخاصة عبر تسهيل مهماتها وإنمائها. يرى معظم المواطنين والشركات أن العلاقة مع الإدارة العامة، بما في ذلك القضاء، قائمة على دفع الضرائب، وأنها مكلفة ونتيجتها غير أكيدة. المشكلة هي أن المؤسسات العامة في لبنان لا تدعم النمو الاقتصادي (وهذا ناتج من سياسة عدم التدخل في الاقتصاد الموروثة منذ القدم)، لا بل أكثر من ذلك، أصبحت عائقاً أمام النمو والتنمية. يشير غياب التغيير البنيوي، بحسب ما يعكسه استقرار بنية إجمالي الناتج المحلي والنشاط الاقتصادي (جدول 4)، إلى التصلُّب المؤسَّسي في النظام اللبناني، وتصلُّب المؤسسات لا يتلاءم مع النمو الدينامي والتنمية.
علاوةً على ذلك، الإدارة العامة في لبنان مكلفة فوق الحد، وقد ازداد حجمها إلى حد كبير (جدول «بنية الانتاج»)، هذا مع العلم بأن مصاريف الإدارة العامة تتألف بمعظمها من الرواتب والأجور. الأهم من ذلك، أصبح التوظيف في القطاع العام خاضعاً، بدرجة أكبر بكثير من السابق، لاعتبارات محض طائفية وسياسية. كذلك إن متوسط الأجور هو في معظم الأحيان أعلى من الأجور التي تُدفَع في الوظائف نفسها في قطاعات كثيرة من الاقتصاد. لذلك، ليس مستغرباً أن يكون هناك ميل إلى السعي للحصول على وظيفة في القطاع العام، حيث متوسّط الأجر أعلى منه في القطاع الخاص، والعمل أقل تطلباً أو مسؤولية.
قد يسبّب قصور المؤسسات العامة، وبصورة خاصة القضاء، تعطيل الاستثمار والنمو بطريقة مباشرة وملموسة. يتطلب الاستثمار الخاص، قبل كل شيء، الحد من الالتباس والتقلبات، وبالتالي من المخاطرة المرتبطة بأي مشروع استثماري من المقرر القيام به. فالإجراءات القضائية بطيئة وطويلة، وقد لا تكون هناك مراعاة كبيرة لسيادة القانون، ما يزيد إلى حد كبير من الالتباس والمخاطر ومن كلفة الاستثمار في لبنان. والنتيجة هي أن المستثمرين يترقبون أرباحاً عالية للتعويض عن المخاطر والتكاليف المرتفعة، ما يؤدّي إلى استثمار أقل ونمو اقتصادي أكثر بطئاً، مقارنةً بالاستثمارات والنمو في ظل إدارة عامة أكثر فعالية وشفافية.

3. المناطق المحرومة

انطبع الاقتصاد اللبناني منذ الاستقلال بتفاوت شديد في توزيع المداخيل والثروات، وبفروقات اقتصادية كبيرة بين المركز (خصوصاً بيروت الكبرى) والأطراف (باقي المناطق). والأكثر خطورة هو أن التباينات المناطقية لم تكن بطبيعتها اقتصادية فقط، بل اجتماعية وثقافية أيضاً. في الستينيات، أجرت مؤسسة «ايرفيد» IRFED أول دراسة استقصائية اجتماعية ــ اقتصادية شاملة على صعيد الوطن بناءً على طلب السلطات اللبنانية. أشار التقرير إلى فروقات لافتة في المداخيل بين المدن والأرياف، لكن أوجه التفاوت أكثر بروزاً إلى حدٍّ كبير في التمدرس وفي الحصول على التسهيلات الثقافية والاجتماعية العامة. ولا يزال هذا الوضع سائداً إلى درجة كبيرة حتى أيامنا هذه.
كان يُفترَض أن تُسهم مساحة لبنان الصغيرة في تسهيل التواصل الاقتصادي والاجتماعي بين مختلف المناطق، لكن على العكس نحن أمام مجتمعات وأسواق متباعدة بدلاً من أن تكون متقاربة أو موحدة. وهكذا تحوّل صغر المساحة من ميزة إيجابية إلى عائق. واليوم ــ كما في الماضي ــ لا تزال معظم النشاطات الاقتصادية والسياسية والثقافية متمركزة في بيروت والمناطق المحيطة بها في جبل لبنان. فبيروت وجبل لبنان حيث يقطن نحو نصف سكان لبنان، لا يزال يتركّز فيهما اليوم نحو 82% من مجموع الودائع المصرفية، ويُفيدان من أكثر من 88% من الاعتمادات المصرفية.

* فصول من ورقة أعدّها الباحث الاقتصادي توفيق كسبار ونُشِرت في كتاب «نهوض لبنان، نحو دولة الإنماء»، الذي وضعه رئيس المجلس الاقتصادي والاجتماعي روجيه نسناس بالتعاون مع 23 باحثاً وعاملاً في الشأن العام.

="" title="" class="imagecache-465img" />
للصورة المكبرة انقر هنا