عائلات وصناعات وزراعات إيطالية عديدة وصلت إلى لبنان في القرن السابع عشر مع عودة الأمير فخر الدين من منفاه في توسكانا. بذرة الصنوبر، التي تُميز منطقة جزين، هي من جملة ما وفد إلى لبنان من إيطاليا في تلك الحقبة. زُرعت في الأرض ونمت حتى صار حرج الصنوبر في بلدة بكاسين الجزينية حرج الصنوبر الأكبر في منطقة الشرق الأوسط. مساحات شاسعة من «الأخضر»، لا تمل العينان من التمعن بها. إلا أنّه خلف هذه المناظر الجميلة واقع بشع يُخيم على المزارعين وأصحاب الأراضي الزراعية، الذين يعانون منذ ثلاث سنوات من حشرات تقضي على مواسم الصنوبر. هذه الأزمة لا شيء يُبشر بانتهائها قريباً. على العكس من ذلك، بذور الأشجار تُنبئهم بأنّ السنوات المقبلة لن تكون أقلّ إجحافاً بحقهم. هي أزمة تشمل كلّ أحراج الصنوبر في لبنان، وبكاسين نموذجاً لها كونها تحوي المساحات الأوسع.يركن ميلاد مطر سيارته جنب الطريق الترابي الذي تحيط به الأشجار. هو ورفيقه المزارع يوسف الحلو يترجلان منها، ليُقدما شرحاً ميدانياً عن أكواز الصنوبر. «اطلعي قدامك»، يشير يوسف بإصبعه إلى إحدى الشجرات قائلاً: «كل الصنوبر هيك». الـ«هيك» تعني أنه يُفترض أن تكون الشجرة غنية بأكواز الصنوبر، «بتلاقي عليها حبة وبتكون صغيرة». من الطبيعي أن تجد أكوازاً من الصنوبر متفاوتة الأحجام، فالشجرة تحمل بواكير ثلاثة مواسم. قد «نجد أكوازاً من السنة الماضية». لم يتم قطفها، بل «تركوهم على إمّن لأنن مش محرزين».
بدأت القصة من ثلاث سنوات. «ذهب لبنان الأبيض»، كما يُطلق على الصنوبر، أصيب بأزمات عدّة فلم يعد يحمل الثمر، ما انعكس سلباً على البلدات التي تقع الأحراج في نطاقها وعلى الأهالي الذين يعتاشون من هذه الزراعة.
من المفترض أن يكون موسم القطاف قد بدأ، «ولكن لم يبدأ أحد بعد بفك الأكواز لأن العدد الأكبر منها فارغ»، كما يُخبر يوسف. ويضيف أنّ ما يحصل مع بعض فروع أشجار الصنوبر هو إصابتها بحشرتين. الأولى «تأكل الطربون (الرأس)، وحشرة ثانية تأكل الثمر». ميلاد يُعقب أنّ «الكوز الصغير المصاب يُصبح يابساً، وإن كان كبيراً يفرغ من الثمار».
بعض الأساليب الزراعية وكميات المياه القليلة وعدم انخفاض درجة الحرارة يؤدي إلى ظهور الحشرة

هذه الحادثة حصلت «منذ قرابة الـ20 سنة»، على ذُمّة مختار بكاسين طوني نمور. ولكن ما يحصل مؤخراً أنّ «الخيار (الثمار الصغيرة) لا ينمو وهو يابس. أما نسبة الأكواز الفارغة فمرتفعة والحبوب مضروبة». هذا الأمر يدفع من يريد شراء الثمار إلى وضعها في الماء قبل أن يتم العملية، فيتمكن بذلك من فرز الفارغ من الصنوبر الجيد. يهم المختار التأكيد أنّ هذه الحشرة، التي تموت في البرد والثلج، «لا علاقة لها بدودة الصندل التي تضرب الصنوبر البري».
من الأسباب التي تؤدي إلى ظهور هذه الحشرة: بعض الأساليب الزراعية المتبعة والتي تؤذي الأشجار، كميات المياه القليلة، وعدم انخفاض درجة الحرارة وسقوط الثلوج بشكل كافٍ لقتل هذه الحشرات. قبل 20 سنة، «أرسلنا عينات إلى ثلاثة بلدان لفحصها، فكانت نصيحة البلدان أنه لا يجب أن نرش الأشجار لأن ذلك قد يتسبب بمقتل حشرات أخرى ضرورية للطبيعة»، بحسب المختار نمّور. على الرغم من أنّ ميلاد مطر رشّ شجرتين صنوبر أمام منزله «فأتت النتيجة إيجابية». ولكن هذا الحلّ لا يُمكن تعميمه بشكل فردي، لسببين. أولاً، الأشجار مرتفعة وهي بحاجة إلى تعاون بين وزارة الزراعة التي يقع عليها واجب تأمين المبيدات وبين قيادة الجيش التي يجب أن ترش الشجر عبر طوافاتها. أما السبب الثاني فهو أنّ عملية الرش يجب أن تتم بين آذار وأيار. وفي الانتظار، «زادت نسبة المرض 60%»، استناداً إلى أحد المزارعين.
يتواجد الصنوبر في 7 بلدات جزينية، إلا أنّ المساحة الأكبر في بكاسين حيث تبلغ 2200 ألف متر، تملكها البلدية مع وجود بعض المساحات الخاصة. في الـ2013 «كان المدخول من الحرش قرابة الـ550 مليون ليرة. هذه السنة قدرته وزارة الزراعة بـ50 مليون ليرة، أشكّ أن نتمكن من كسبها»، استناداً إلى رئيس البلدية النقيب المتقاعد حبيب فارس. المعضلة التي تعاني منها البلدية هي أنها لا تملك إمكانيات التصرف، «ما يجب أن يحصل هو أن تضع وزارة الزراعة يدها على الحرج وترشه بالتعاون مع قيادة الجيش تماماً كما حصل في منطقة المتن». يبدو فارس واقعياً حين يقول إنه للبلدية «موارد أخرى، من وزارة الداخلية مثلاً، ولكن هناك عائلات أصبحت من دون مورد رزق. يأتون إلينا طالبين وظائف كنواطير في البنايات أو أي شيء».
في دار البلدية، يجمع فارس حوله عدداً من المزارعين لمناقشة الموضوع. الكابتن بعينو، الذي يملك مساحات خاصة، يعرض أن يتم التعاون مع أحد الخبراء الزراعيين «ليلقي محاضرة حول كيفية الاهتمام بالصنوبر»، إضافةً إلى تحديد «المبيدات اللازمة لرش الشجر» حتى لا تُتخذ إجراءات عشوائية. مزارع آخر يتمنى أن تمنع البلدية الصيد «لأن العصفور يأكل هذه الحشرة. لم نعد نسمع صوت الحسون أو البوبانة أو الطيونة».
ينقسم المستفيدون من شجر الصنوبر إلى قسمين. القسم الأول هم المزارعون الذين يضمنون الأرض مقابل مبلغ معين من المال. والقسم الثاني هم من مالكي الأراضي. الاثنان يؤمنان قوتهما من الصنوبر. ينتمي ميلاد مطر إلى القسم الأول وهو «خسران 100 ألف دولار هذا العام». مثلاً هو ضمن الأرض من دير مشموشي لأكثر من سنة وقد وُقعت عقود بين الطرفين، أدت إلى أن يدفع ميلاد سلفاً. الشغل «طلع خسارة بخسارة، هلق عم بشتغل بالباطون». أحد أسباب الخسارة أيضاً هو «ارتفاع أجرة اليد العاملة إلى 100 ألف ليرة في اليوم».
لا يتفاءل المعنيون بالخير، خاصة أن وزارة الزراعة على علم بالمصيبة ولكنها لم تُحرك ساكناً بعد في جزين. مضى على الأزمة 3 سنوات، والأمور ستسوء مع الوقت كلما تأخر العلاج. على طول الطريق من صيدا إلى جزين، صرف السياسيون أموالاً كثيرة لنشر صورهم وصور العماد ميشال عون، إلا أنّ أحداً منهم لم يُحرك ساكناً في ملّف الصنوبر.