مؤشر ثقة المستهلك، الصادر عن بنك بيبلوس والجامعة الاميركية في بيروت، يحدد وظيفته (من منطلق نظري) بقياس مدى تفاؤل أو تشاؤم المستهلكين إزاء الاقتصاد اللبناني في المستقبل القريب، عبر طرح مجموعة من الأسئلة على عيّنة "مؤلفة من 1200 رجل وامرأة"، تتعلق بوضعهم الاقتصادي حالياً وتوقعاتهم للأشهر المقبلة. والفكرة من وراء ذلك أنه إذا كان المستهلك متفائلا، يشتري كميات أكبر من السلع والخدمات، ما من شأنه، بحسب إطار المؤشر النظري، تحريك اقتصاد البلاد ككل. المشكلة في هذا الطرح، بطبيعة الحال، هي أن درجات تفاؤل وتشاؤم المستهلك لا تتبع دوماً أسباباً موضوعية لها علاقة بالوضع الاقتصادي، بل قد يتأثر المستهلك (بما أنه إنسان لا وحدة اقتصادية مجرّدة) كثيراً بأحداث أمنية وسياسية وخطابات أيديولوجية من شتّى الأنواع، تترجم على سبيل المثال بتفاؤل في غير محله قد يؤدي بالمستهلك إلى المبالغة في صرف أموال على أشياء لا طاقة له بأسعارها، أو لسحب قروض ستضعه في مأزق مالي في المستقبل (ما سيترجم بتشاؤم بعد اختفاء تأثير الحدث). فعلى سبيل المثال، أظهر المؤشر المذكور أنه خلال الانتخابات البلدية الماضية، وكذلك على أثر التصالح بين التيار الوطني الحر والقوات اللبنانية، ارتفعت ثقة المستهلك خلال الربع الثاني من العام الجاري. والمستفيد هنا دوماً الشركات والمصارف وأصحاب المصالح التجارية والعقارية، الذين يمكنهم استخدام هكذا مؤشرات لاستغلال النزعات النفسية للمستهلك لرفع نسب أرباحهم.
المسيحيون ما زالوا الأكثر حظّاً بالوظائف العامة ويمتلكون العقارات الأكثر غلاءً في محيط بيروت
يدرس المؤشر ثقة المستهلك بحسب فئات فرعية عدة منها، الوظيفة، الجندر، والدخل، والفئة العمرية، والمنطقة، والطائفة. والأخيرة هي اللافتة للنظر، إذ يستغرب البعض استخدام الطائفة كفئة تدرس ثقة المستهلكين المنتمين إليها، وكأنها وحدة اقتصادية لا تتخللها تفاوتات طبقية واجتماعية ومناطقية، وخاصة أن النظر الى المؤشر من زاوية فئة الدخل تظهر بوضوح أن الثقة ترتفع بارتفاع الدخل.

ثقة المسيحيين أعلى من بقية الطوائف

بغض النظر عن كيفية تعريف الطائفة، لا يمكن إنكار أن إحدى التقسيمات العديدة التي تحدد بنية المجتمع اللبناني هي التقسيم الطائفي، وذلك بحكم مسار تاريخي معين يمر بنظام الملل العثماني إلى الصراع الماروني الدرزي في جبل لبنان في منتصف القرن الـ 19، إلى الاستعمار الفرنسي الذي «خطّ»، كما يقول الفيلسوف الكاميروني أكيليس مبيمبي، على الارض علاقات اجتماعية وجغرافية جديدة لخدمة مصالحه، وصولاً إلى عهد الاستقلال والحرب الأهلية واتفاق الطائف وعمليات تكريس الطائفية كنظام والحريرية الاقتصادية. ربما من هذا المنطلق، قد يكون مبرراً بمكان ما اعتبره كبير الاقتصاديين في بنك بيبلوس، نسيب غبريل، في حديث لـ«الأخبار»، أنه بحكم أننا «لسنا نعيش في سويسرا»، فلا بد لمؤشر يقيس ثقة المستهلك اللبناني أن ينظر إلى الأمر من منطلق الطوائف، إلى جانب فئات أخرى كالمنطقة، والوظيفة، والجندر، وغيرها. وذلك بسبيل «الشفافية ومعالجة الشح في المعلومات حول الاقتصاد اللبناني» عبر مراكمتها.
ومن يطّلع سريعاً على فئة «الانتماء الديني» في مؤشر ثقة المستهلك، يصبح لديه مباشرةً انطباع عام بأن المستهلكين الذين ينتمون إلى الطائفة المسيحية في لبنان، باعتبار الطائفة هنا فئة اجتماعية موحدة قابلة للدراسة على أنها وحدة اقتصادية (بحسب المؤشر)، هم أكثر ارتياحاً للوضع الاقتصادي وثقةً به من باق المستهلكين من الطوائف المذكورة (السنّة، الشيعة، والدروز) منذ أن بدأ بنك بيبلوس بإصدار المؤشر. كما يظهر المؤشر، أن الطائفة المسيحية تحوز في أغلب الأحيان أعلى نسبة ثقة بين الطوائف، تتبعها على نحو إجمالي الطائفة الدرزية. كما تكشف الأرقام أن متوسط نسبة الثقة بين 2012 و2015 لدى الطائفة المسيحية حوالى 39%، وهي نسبة متدنية إجمالاً، وتراوح بين 35% و45% غالباً، لكنّها أعلى من متوسط الثقة لدى الشيعة بـ15نقطة (24%) ومن متوسط الثقة لدى السنة بـ10 نقاط (29%) والدروز بحوالى 6 نقاط (33%). 
تشير هذه الأرقام إلى اختلافات واضحة بين الطوائف، وإن كان يصعب رسم خارطة متناسقة تعكس أنماط سلوكية ومعيشية لها كوحدات اجتماعية. فكما أشار الباحث أديب نعمة في حديث مع «الأخبار»، إن الفترة الزمنية منذ بدء إصدار المؤشر عام 2011 إلى اليوم ليست كافية لتقديم استنتاجات حقيقية حول تلك الأنماط (إلى جانب ضآلة حجم العينة). ولكنّها تطرح ايضاً إشكالية أساسية، نتيجة اعتبارها الطائفة وحدة لا تتخللها تفاوتات طبقية واجتماعية وجغرافية قد تجعل المؤشر كقياس لثقة المستهلك المنتمي إلى طائفة معيّنة فاقدا تماماً الدقة. ومن هذا المنطلق يشرح نعمة أنه لكي يكون التقييم صالحاً لا بد أن تحظى الطائفة بتناسق داخلي، أي إنه يجب أن «تتشارك جميع الفئات المنتمية للطائفة أنماطا سلوكية ومعيشية واقتصادية واجتماعية متشابهة».

مستهلكو جبل لبنان الأكثر ثقة
متوسط الثقة لدى الطائفة المسيحية يبلغ 39% بين 2012 و2015

من هنا، قد يقوم التقييم الديموغرافي لثقة المستهلك الأكثر اتساقاً، على المناطق لا على الطوائف، وإن لم يتخذ أي من التقييمين في اعتباره التقسيم الطبقي. إذ يؤكد غبريل أن الصورة أوضح في التقييم المناطقي، مشدداً على أن ما تقوله الأرقام، برأيه، هو أنه «بغض النظر عن جميع التصنيفات، ثقة الناس منخفضة جداً». تظهر الأرقام منذ بدء إصدار المؤشر أن جبل لبنان يحوز على نحو دائم تقريباً أعلى درجات ثقة المستهلكين (علماً أنها منخفضة لا ترتفع عن 50% إلّا نادراً)، فيما يسجل البقاع أكثر الدرجات انخفاضاً، تصل في بعض الأحيان إلى ما دون 10%، بينما يوجد تشابه في نسب الثقة في الشمال والجنوب وبيروت. ولعل ذلك قد يعكس إلى حد ما، الفروق الظاهرة بين اقتصادات المدن في جبل لبنان والمدن في المناطق الأخرى، على الأقل من حيث ميل الشركات العالمية إلى الاستثمار أكثر في المناطق التي يتركز فيها الدخل الاعلى، كالأشرفية أو جونية (وفي المناطق التي لم يعد يمكن نسبها لطائفة كالحمرا ورأس بيروت)، بينما تغيب إلى حد كبير عن مناطق عانت سابقا فقر الدخل وسادت فيها انماط الاستهلاك غير المدينية (وإن بدأ يتغير ذلك على نحو متواضع خلال السنوات الماضية) كالضاحية الجنوبية، وصور، وصيدا، والنبطية، وبعلبك.
ولتوضيح المسألة، يعطي نعمة مثالاً عن كسروان، إذ إنها بغالبيتها مدينية، أي لدى سكانها سلوكيات ونسق معيشي معينة. ويضيف أنه نتيجة تطورها التاريخي كانت غالبية سكانها من الطائفة المارونية، ولكنه يرى أنه لا يمكن تنميط وتعميم نموذج كسروان على الموارنة عامةً، فمثلاً الفرق واضح بين أهل كسروان وأهل دير الأحمر أو زغرتا، والسبب التفاوت في الدخل والثروة على نحو أساسي، أي الفوارق الطبقية، ثم تفاوت الامتيازات تاريخياً بين تلك المناطق (مثلاً ارتفاع أسعار العقارات). ومثالٌ آخر على ذلك، التفاوت بين سنّة رأس بيروت وسنة برجا وطرابلس، وذلك ينطبق على الطوائف الأخرى أيضاً. فمثلاً تظهر المقارنة بين القرى الجنوبية ذات الغالبية الشيعية التي فيها نسبة مهاجرين مرتفعة والتي تعتمد على نحو أكبر على الزراعة والخدمات المحلية تفاوتات كبيرة من حيث الثروة والدخل. أكثر من ذلك، يجدر التساؤل، هل يمكن القول إن السلوكيات والأنماط المعيشية لشيعة الجنوب هي ذاتها لشيعة البقاع أو لسنّة بيروت هي ذاتها لسنّة الشمال إلخ؟ مع أنهم بحسب مفهوم المؤشر للطائفة يمكن احتسابهم على أنهم وحدة اجتماعية واقتصادية.
جبل لبنان يحوز على نحو دائم تقريباً أعلى درجات ثقة المستهلكين

التفاوتات لا تأتي من العدم

يشير الباحث فواز طرابلسي في كتاب «الطبقات الاجتماعية والسلطة السياسية في لبنان» إلى دراسة قام بها عالما الاجتماع كلود دوبار وسليم نصر عام 1974، أظهرت بحسب طرابلسي «مدى التقاطع بين التمييز (والامتياز) الطائفي والتمييز (والامتياز) الاجتماعي الطبقي»، إذ مثّل المسيحيون (الموارنة خصوصاً) أكثرية الطبقات العليا والمتوسطة، بينما تشكّلت الطبقات الشعبية «المدينية منها والريفية» من أغلبية مسلمة (خاصة الشيعة). كما تظهر الدراسة التفاوت في فرص التعليم معتبرةً إياها «أبرز مظاهر التمييز الطوائفي-الاجتماعي»، إذ إن 60% من المسلمين في العيّنة لم يكونوا قد أتمّوا التعليم الابتدائي فيما النسبة لا تتعدى الـ28% لدى المسيحيين.
تجدر هنا التفرقة بين خطاب طائفي يوظف هذه التفاوتات لخدمة مصالح ما، ودراسة التقاطعات بين الطائفة كظاهرة مادية والتفاوت الطبقي من منطلق تاريخي في سبيل فهم الواقع الاجتماعي والاقتصادي. والحقيقة، أن هذه التفاوتات لم تأت من العدم، ولا من أفضلية ذاتية لطائفة على أخرى بل هي نتيجة لسلسلة أحداث تاريخية وسياسات، منها، على سبيل المثال، ان بعض الفئات من المسيحيين، بحكم علاقاتهم مع دول أوروبية استعمارية، أول من أدخل أشكالا معيّنة من الرأسمالية إلى المنطقة عبر تجارة الحرير، إضافة إلى الإرساليات المسيحية الأوروبية التي أمّنت لمسيحيي الجبل التعليم فيما كان يصعب على ابناء المناطق الأخرى الحصول حتى على التعليم الابتدائي، إلى جانب قيام متصرفية جبل لبنان، حيث حازت المنطقة ذات الأكثرية المسيحية نوعا من الحكم الذاتي، وبدأت فيها نواة مأسسة التفاوتات الطائفية في محاصصة مراكز السلطة. كل هذه العوامل وغيرها أدّت إلى تطور الطوائف اقتصادياً واجتماعياً بأشكال متفاوتة، كانت نتيجتها امتيازات حازتها الطائفة المسيحية (وخصوصاً المارونية) في الدولة سياسياً وعسكرياً، إضافةً إلى كونهم أول من شكّل برجوازية في لبنان ما أعطاهم الأفضلية في أكثر القطاعات الاقتصادية ربحاً في الخدمات والمصارف والتجارة وغيرها.
كل هذه العوامل وغيرها أدّت إلى الحالة التي عكستها دراسة دوبار – نصر في سبعينيات القرن الماضي، من تفاوتات اقتصادية واجتماعية بين الطوائف، ومن امتيازات مسيحية. كما أنها تترك أثرها اليوم، مع أن الواقع في السنوات الماضية بدأ يتغيّر مع الحريرية وصعود برجوازية شيعية. فالمسيحيون ما زالوا الأكثر حظّاً بالوظائف العامة الإدارية والعسكرية، وما زالوا يشكّلون أصحاب العقارات الأكثر غلاءً في محيط بيروت، وما زالت نسبة الدخل المرتفع لدى المسيحيين أعلى من المسلمين. ولكن للتشديد على المنحى الطبقي للمسألة فإن هذه الأفضليات التي تؤمنها الطائفة يجب أن تجتمع مع عوامل أخرى منها السياسي والجغرافي والعائلي وحتى الطبقي الاجتماعي، ليستفيد الشخص منها اقتصادياً، ما ينتج تفاوتات طبقية كبيرة ضمن المجتمع، وبالتالي ضمن كل طائفة، ولا سيما المسيحية. أما بالنسبة لمؤشر ثقة المستهلك، يمكن القول بأنه فيما تبقى للطائفة أهمية بحكم طائفية المؤسسات وقيامها على مبدأ المحاصصة، فإنه لا يمكن اعتبار الطائفة كتلة واحدة ذات تناسق داخلي، إذ يغيّب ذلك العوامل الأخرى الأكثر أهمية في تحديد شروط الاستفادة وآليات عملها. كما يغيّب كون الطائفية أداة تقسيمية توظفها الطبقة الحاكمة للحفاظ على استمرارية مصالحها.