منذ ستّ سنوات، يعيش ناس اليمونة داخل «غطيطة». يسموّنها هناك «العاصفة الترابية». تلك العاصفة التي كلّما هبّت، يتندّر الناس قائلين «هبّت العاصفة، يبدو أن السدّ شغّال». برغم التندّر، إلا أنّ ما يجري في اليمونة ليس نكتة. والربط بين العاصفة وسدّ اليمونة لم يولد من العبث، بل صار عمره ستّ سنوات. والسبب؟ «أبو علي دندش»، يقولون. أما من هو؟ يتحدّث الناس في اليمونة عن رجل نزل عليهم بـ«الباراشوت» أواخر عام 2010 وتسلّم، بقدرة قادر، مشروع إنشاء سدّ اليمونة، بسعر «لقطة» بلغ في حينه 11 مليون دولار أميركي، «علماً أنه قبل تسلمّه هذا المشروع، أجريت دراسة مفصّلة قدرت قيمته بـ18 مليون دولار أميركي»، يقول رئيس البلدية طلال شريف.
هذا الفارق أرسى المناقصة على شركة «نيو ليبانون». وهو الفارق نفسه الذي شعر معه الناس بأن الوضع لن يكون على ما يرام. بدأت الشركة عملها بتعهّد بانتهاء «الأشغال أواخر عام 2013».
لكن، ها هي سنوات ثلاث تمرّ على الموعد وما تزال المرحلة الأولى من جرف التربة و«الأساسات» تحتاج عاماً إضافياً كي تنتهي. قد يقول قائل إنّ جلّ المشاريع «تشطح» وليست «نيو ليبانون» استثناء. ولكن، في اليمونة، تفوّقت الشركة على نفسها في فرض الاستثناءات، إن كان في التسويف أو في ارتكاب المخالفات التي كان أكثرها فظاعة خنق اليمونة بالغبار وإغراق أراضيها بالتراب الذي تحمله من «الجورة»، التي يفترض أن تكون بركة السدّ. يقول المختار مزهر شريف إلى أنّه «في بعض الأيام، نشعر بأن عاصمة رملية تمرّ من هنا، من كثرة الغبار التي تحدثها الجرافات». لا يقول شريف ذلك من العبث، فالناظر إلى البلدة من «فوق» سيرى تلك السحابة البيضاء التي تستقر فوق سمائها. هناك، يتحدّث الناس عن «نقلات تراب ترمى في أراضي المحمية». والتي يقدّرها المختار بـ«ما يفوق 80 ألف نقلة، رُمي الكثير منها في المحمية، حتى صارت في بعض الأماكن كالتلال، فيما كان يعطى البعض الآخر للناس بناء على طلبهم، وفي ناس اشتروا التراب مشترى، علماً أنّ هذه النوعية من التراب غير صالحة للزراعة». كما يقول الناس أيضاً الكثير عما تؤول إليه الحال في المحمية، ويتحدّث آخرون عما تفعله الشركة «فبدلاً من نقل التراب بعيداً عن المحمية بكلفة تصل الى 100 دولار، عم تنقلها بـ11 دولار الى المحمية القريبة لتوفّر». علماً أنّ أحد شروط عقد تنفيذ السد أن تنقل الأتربة الردميات إلى أماكن تبعد، على الأقل، 3 كيلومترات عن البلدة. لكن، على ما يبدو أن الشركة تستسهل أمر رمي ردمياتها في قلب المحمية، بحجّة «الكلفة الباهظة»، على ما تقول مصادر في الشركة. أما رئيس البلدية طلال شريف، فيرمي الحمل عن كاهل الشركة بالقول: «في النهاية عليك تأمين مكان مناسب لهم كي يضعوا الأتربة فيه»، مشيراً إلى أن ما يُشاع عن تلوّث المحمية هو «حكي متفلسفين».
بالنسبة لشريف، كلام «متفلسفين» إغراق المحمية بتراب عندما «يختلط بالماء يصبح كالصلصال، يعني صبّة باطون»، وتغليف أشجار اللزاب في جبال المحمية بالغبار. لكن، مهلاً، هذا ليس كلام «متفلسفين»، هذا ما «جنته» شركة نيو ليبانون على اليمونة، والدولة بغيابها المزمن عن المنطقة. وبرغم تقدّم أهالي اليمونة بشكاوى إلى محافظة بعلبك ـ الهرمل، عرضوا فيها «التعديات ونقل شركة نيو ليبانون للردميات ورميها بشكل عشوائي في السفح الشرقي لمحمية اليمونة الطبيعية»، إلا أنّ أحداً لم يجب على الشكوى. ولا تزال منذ أيلول من العام الماضي في مركز المحافظة "بالحفظ والصون".
تعوم بلدة اليمونة على «بحرٍ» من المياه. لكن أحوال أهلها ليست بخير، فالدولة التي «ركّبت» لبيوتهم عدّادات مياه الشفة منذ ست سنوات، اكتفت بالديكور فقط. ليس مهماً بالنسبة لها ربما كيف يعيشون أهل الهوامش، ولكن بالنسبة لهؤلاء فهم يتيقنون يوماً بعد يوم من غيابها، كلما نظروا إلى الصندوق الحديدي المركون عند عتبة منازلهم. تماماً، كما هي الحال عندما يتحدّثون عن مشروع السدّ. هذا السدّ الذي كان سيعيد لهم حقّهم في المياه التي كانت تروح، في أيام الشحّ، في البواليع. ولكن، في ظلّ هذا الغياب، لجأ اهل اليمونة إلى أساليبهم في استجرار المياه إلى بيوتهم، فبدأوا بحفر الآبار.
رئيس البلدية: ما يُشاع عن تلوّث المحمية هو «حكي متفلسفين»

رويداً رويداً، استحال البئر هناك ثمانين، حيث صار لكلّ منزلٍ بئر. لكن، القصّة لا تنتهي هنا، فقد لجأ المزارعون أيضاً لحفر آبار أيضاً، على مقربة من أراضيهم الزراعيّة، حتى أنّ البعض منهم، وهم المزارعون «الكبار»، امتهن بيع المياه، «حيث كان يسقي زرعاته ويبيع للمزارعين الآخرين المياه بـ100 دولار بالنهار وأوقات ع الساعة»، يقول أحد سكان البلدة. ولا يبالغ بعض الناس هناك عندما يقولون إنّ اليمونة صارت عبارة عن «تجمّع آبار»، كما لا يبالغون حين يقولون إنّ هذه تحوي ما يقارب «المئة إنش مهدورة على وجه الأرض»، فآبار المزارعين الكبار لا تقلّ «سعة المياه فيها عن 4 و5 إنش». وكلما زادت اليمونة بيتاً، زادت بئراً، علماً أن الاتفاق مع مصلحة مياه البقاع كان يقضي بأن يجري ردم هذه الآبار وتشغيل مياه الشفة. لكن، أين هي هذه المصلحة؟ يضحك الأهالي من السؤال، فلهم مع المصلحة حكايات كثيرة، لعلّ منها «حكاية الموظّف المسؤول عن الطرشنا (سكر المياه الأساسي) الذي يتقاضى راتباً من الدولة عن ساعة عملٍ يؤديها عند بداية الربيع، حيث يعمل على تخفيف قوة ضخ المياه والتي تكون عادة غزيرة في هذا الفصل»!
أما حكاية الصرف الصحّي فحدّث ولا حرج، ففي البداية كانت وزارة الطاقة تتولى هذه المهمة، ثم «حوّلتها» إلى مؤسسة مياه البقاع. ولا يخاف الناس هناك من قول أنّ المؤسسة «متل إجرها ما يجري في اليمونة»، فهذه الأخيرة عندما كلفت إحدى الشركات بتمديد شبكات الصرف الصحي ارتكبت أخطاء فادحة في عملها، لعل «أخطرها القسطل الرئيسي للصرف الصحي الذي لا تتعدى سعته 6 إنشات». كما أنّ هذه الشبكة لم تشمل كل الأماكن المأهولة، فثمّة بيوت في اليمونة أقيمت في السنوات الأخيرة ولم تتصل بشبكة الصرف الصحي، الأمر الذي دفع هؤلاء إلى إنشاء «جور صحّية» بالقرب من منازلهم. وهي أصلاً القريبة من منابع المياه.
سوء التنفيذ يدفع ثمنه أهالي اليمونة الذين يضطرون في كل حين للاستعانة بشركة صيانة. أضف إلى ذلك أنّ المؤسسة أيضاً تتسلم مهام محطّة التكرير «وهذه الأخيرة تعمل بواسطة الضخّ وكلما انقطع التيار الكهربائي، تطوف الريغارات بمياه الصرف الصحي». تلك المياه التي ستجد طريقها لا محالة نحو الأنهر «اللي بتشرب منها الناس»، على حد قول رئيس البلدية. تلك المياه التي لا يشرب منها أهالي اليمونة فقط، وإنما أهالي 42 قرية تصلها المياه. وفي هذا الإطار، يرفض المدير الإداري في المؤسسة، خليل عازار ما يقوله أهالي المنطقة، مشيراً إلى «أننا منذ سنتين، عدلنا في شبكة الصرف الصحي حتى لم يعد هناك أية مشكلة». ولكن، يحدث أنه في فترة ذوبان الثلوج «بتصير الأمور أوفر ويمكن بتفيض الريغارات»!
ولوزارة الطاقة والمياه حكايتها مع اليمونة أيضاً، فهذه الأخيرة يفترض أنّها مسؤولة عن تنظيف مجاري الأنهر في المنطقة، غير أن المسؤول عن هذا الأمر لا يفعل شيئاً سوى «تسجيل الفواتير». يقدّر الأهالي هناك أنه منذ فترة طويلة لم تنظّف مجاري الأنهر، والجواب الذي كان يأتيهم عند السؤال عن الأمر «وين بدنا نحط الطالوش (الأوساخ) إذا شلناه؟».
هكذا، صارت حال اليمونة. وهي حال تختلف تماماً عما يتذكّره كبار السن عن المنطقة التي كانت «مشنشلة» بالتفاح. يتذكرونها كيف كانت، فيحلو لهم وصفها «متل ما مكتوبة بكتاب الجغرافيا»: بحيرة «ينغل» فيها سمك ذهبي، يعتاش منها سكان الضيعة. أما اليوم، فقد مات السمك وصارت «البركة» مستنقعاً لا يعرف الناس متى يصبح سدّاً.