مليون تلميذ في المدارس الرسمية والخاصة يخضعون للمناهج التربوية في مؤسسات التعليم المختلفة في لبنان. وبحسب رئيسة المركز التربوي للبحوث والإنماء (المؤسسة المعنية بإعداد المناهج)، ندى عويجان، ليست المناهج مجرد كتب يعاد النظر بمضامينها، بل هي خلطة كاملة من طرائق التدريس والأنشطة والتقويم التي تعمل على بناء شخصية المتعلم ووعيه وتدريبه.هذه المناهج تخضع حالياً لإعادة نظر، وهذا، في رأي التربويين، مطلوب دائماً باعتبار ان تطوير التعليم يجب أن يكون عملية متواصلة وتراكمية. إلا أن الحكومة سمحت بتجيير جزء من وظيفة الدولة في هذا المجال الى مؤسسة خاصة تعمل كمنظمة غير حكومية، هي مؤسسة "اديان". كان لافتاً جداً أن يتم الإعلان عن انطلاق "المرحلة التنفيذية لتطوير منهج مادتي التربية الوطنية والتنشئة المدنية والفلسفة والحضارات"، في سياق مشروع "الاستراتيجية الوطنية للتربية على المواطنة والعيش معاً"، الذي تنفذه مؤسسة "أديان"، بالشراكة مع وزارة التربية والتعليم العالي والمركز التربوي للبحوث والإنماء، وبدعم من السفارة البريطانية في لبنان.
تبدو "اديان" مناسبة لهذا الدور، فهي تأسّست في 6 آب 2006، كمؤسّسة لبنانيّة للدراسات الدينيّة والتضامن الروحي، بحسب ما تعرّف عن نفسها على مواقعها. وترمي استراتيجيتها الى تعديل المناهج وفقاً لمقاربة ملتبسة في الواقع اللبناني، تحت عنوان «المواطنة الحاضنة للتنوع الديني» و"ثقافة السلام"... من دون المس بالتعليم الديني المتفلت في المدارس.
لا يمكن للمواطنية أن تكون في خدمة المجموعات الدينية

يقترح احد التربويين السؤال التالي كمدخل لفهم المقاربة التي تطرحها "أديان": «كيف يمكن أن يشكل التلميذ معرفته الدينية ويصل إلى المعلومة وفق منهج علمي، وهو لا يزال يتعلم، في حصص الدين، إيديولوجيا دينية وتربية على العقائد، في وقت لم يعد خافياً على أحد كيف يرفع انتشار التعليم الديني في المدارس منسوب الطائفية والتعصب ورفض الآخر؟".
يطرح هذا السؤال الاشكالية الرئيسة التي تعترض مقاربة "اديان". بقول البروفسور منير أبو عسلي، الرئيس السابق للمركز التربوي، إن «نظامنا الطائفي، المذهبي، المحاصصي، الزبائني يقف غالباً عائقاً أمام كل المبادرات الآيلة الى جمع اللبنانيين باتجاه أهداف وطنية مدنية موحّدة». يسأل في حديث مع «الأخبار»: «هل باستطاعة الاتفاقية مع مؤسسة أديان تخطّي النظام الطائفي وتحويل التعليم الديني إلى ثقافة دينية ييسّرها أساتذة مدنيون؟ هل يمكنها تحويل مدارسنا الى ميدان لتعزيز الانتماء الوطني بالمطلق؟ هل تحوّل المتعلمين إلى متخرجين متدربين على ممارسة الديموقراطية والدفاع عن الحريات العامة؟ هل تنتج متعلمين قادرين على محاسبة المسؤولين مهما كانت طوائفهم وانتماءاتهم؟ هل تحوّل نظامنا تدريجياً وبالطرق الديموقراطية، من خلال أفواج المتعلمين، إلى نظام مبني على الكفاءة من دون غيرها؟".
برأيه، إن تحقيق ذلك يتطلّب "تمكين المعلمين من اعتماد طرائق تعليم تحثّ المتعلم على التفكير والتحليل، على التساؤل والبحث والاستنتاج، وتنمّي فيه روح التعاون والاستماع إلى الآخر وتجعله قادراً على طرح تصورات غير التصورات السائدة، فيتحرّر من قيوده الطائفية والمناطقية الضيقة وينطلق الى رحاب الوطن". يلفت ابو عسلي إلى ضرورة أن تلحظ الاتفاقية توسيع مساحة المشاركة لتشمل المرجعيات المدنية وأن تتوقف عند الهدف المرجو من إعادة النظر بمنهجي «التربية الوطنية والتنشئة المدنية» و«الفلسفة والحضارات»، «فالمطلوب بنظرنا كان ولا يزال الإسهام، من خلال هاتين المادتين، في إعداد جيل من المواطنين: يحترمون بعضهم البعض مهما تعدّدت آراؤهم وانتماءاتهم الطائفية والمناطقية، يتواصلون بشكل إيجابي في ما بينهم، ويعملون معاً لبناء مستقبلهم".
وبحسب الباحث التربوي محمد فاعور، المطلوب ليس إدماج مفهوم المواطنة ضمن التنوع الديني، إنما وضع التنوع الديني تحت مظلة المواطنة. ويلفت إلى أنّ التربية المواطنية تشمل احترام الانتماءات الدينية والعرقية والمناطقية المختلفة للمواطنين المتساوين أمام القانون ولا تقبل بالتمييز في الحقوق والواجبات على أساس ديني أو مذهبي أو مناطقي أو عشائري. وهذا المفهوم يتناقض مع تأسيس النظام السياسي على أساس طائفي وديني كما هي الحال في لبنان الآن. أما بناء المواطن اللبناني المعتز بانتمائه الوطني والإنساني والذي يحترم قيم التعايش والديمقراطية والسلام فلا يتناقض، كما يقول، مع الموقف العربي التاريخي تجاه القضية الفلسطينية ووعي أبعاد الصراع مع العدو الصهيوني وسائر القضايا العالمية الهامة مثل الفقر والفساد والتلوث البيئي.
المواطنة كما يعرفها الرئيس السابق للمركز التربوي نمر فريحة، هي علاقة المواطن القانونية بالدولة وعلاقته الوجدانية بالأرض والشعب والتاريخ والثقافة والتراث، لذلك لا يمكن للإطار الديني أن يحصرها ضمنه، كما لا يمكن للمواطنية أن تكون في خدمة المجموعات، بل العكس هو الصحيح، وهو أن تصبح الانتماءات المذهبية ثانوية بالنسبة إلى الانتماء المواطني.
وفي رأيه، من أول مبادئ المواطنية المساواة بين المواطنين، وإلا يكون وجودها بالشكل والكلام المستهلك يومياً، إذ يجزم «أننا ما زلنا رعايا وأزلام وطوائف، ونحتاج إلى بناء شخصياتنا كمواطنين وليس كأتباع. وهذا أمر معقد وصعب في مجتمع اعتاد الخضوع للزعماء، وينشّئ أبناءه على عبادة الأشخاص، فيما المنظومة القائمة تهتم بالتفرقة أكثر لأنها تريد أن يبقى الوضع الاجتماعي والسياسي مأزوماً كي يبقى يخدم مصالحها".
لا يمانع استاذ مادة المناهج في الجامعة اللبنانية هاشم عواضة أن يلعب المنهج التعليمي دوراً في التربية على المواطنة واحترام الالتزام الديني والحريّة الشخصيّة، شرط عدم تخطّي القوانين وحريّة الآخر وإنسانيّته. يقول إنّه يؤيد شخصيّاً، وانسجاماً مع قناعاته، التعليم الديني المضبوط تحت سقف السياسة التربويّة الوطنيّة، والذي يكون لوزارة التربية فيه دور المشرف والمراقب.
تحاول رئيسة المركز التربوي ندى عويجان ان تخفف من أثر تدخّل مؤسسة خاصة في تعديل المناهج، تقول إن الاتفاقية مع "اديان" محكومة بضوابط الدستور والقوانين والأنظمة والمراسيم التي يحدد مجلس الوزراء في خلالها دقائق وتفاصيل المواد. وبالتالي، فإن التعاون مع هذه المؤسسة هو ضمن التعاون مع المجتمع المدني والجمعيات المتخصصة والناشطة، ومع المؤسسات التربوية الخاصة والرسمية، وتمر مضامينه وتوجهاته عبر اللجنة العليا للمناهج ووزارة التربية ومجلس شورى الدولة ومجلس الوزراء.
وترى أنّ اللبنانيين على تنوع توجهاتهم الإيمانية يعيشون تحت سقف المواطنة الحاضنة للتنوع، ويحلون مشاكلهم بالحوار والسلام، ضمن مقتضيات القوانين والانظمة الراعية للحياة. وتضيف: «عنوان الشرعة الوطنيّة المنبثقة عن مشروع أديان هو التربية على المواطنة الحاضنة للتنوّع الديني، وفي هذا جواب كاف وشاف، فالمواطنة تدير هذا التنوع في الاتجاه المطلوب وليس العكس. والتنوّع الديني واقع في لبنان! فهل كان الواقع الدستوري والقانوني في لبنان مصدر غنى أم سبب ويلات؟».
وتقول: «وطننا يحتضن مواطنين ذوي تنوّع ديني وهويّة مركبّة. وقد حاول البعض إلغاءنا، وحاول آخرون صهرنا، وهناك من أراد تقسيمنا، كما اقترح آخرون تهجيرنا كأن التنوع خطيئة أو عار أو مذلّة، فلا أرى أي خطأ في أن نصبح مواطنين لبنانيين ومؤمنين. بل قد يكون مفهوم المواطنة الحاضنة للتنوع الديني مدخلاً لتبني مفهوم التثاقف الذي قد يساهم في اخراج اللبنانيين من الانتماءات المتنوعة المتنافرة إلى استثمار التنوع لإنتاج ثقافة وطنيّة جامعة».




الانسان المسالم

تعتبر رئيسة المركز التربوي ندى عويجان ان تبني هدف "بناء انسان مسالم" في المناهج الجديدة لا يتعارض مع مقاومة العدوان والاحتلال. تقول: «ثقافة المقاومة هي ثقافة دفاعية غير هجوميّة! لذا فنحن نبحث عن انسان مسالم لكن غير مستسلم، فالمسالمة لا تعني الخنوع، بل هي ثقافة الإنسان الذي لا يعتدي على حق سواه ولا يتخاذل عن الدفاع عن حقه وانتزاعه".