في ظل إحكام السلطة سيطرتها على هيئة التنسيق النقابية وخنق التحركات العمالية المختلفة وتطويقها، تستقبل الحركة النقابية اللبنانية الأول من أيار بحفلات التهانئ بمناسبة عيد العمال، وهي أشبه بمجالس عزاء لأجسام نقابية مترهلة. مشهد مضحك - مبكٍ يزيده عبثيةً مسيرات فولكلورية لأحزاب تريد أن تثبت لنفسها أولاً أنها ما زالت موجودة واحتفاليات ارتجالية بلا برامج سوى إثبات حضور على هامش هذه الأحزاب.
في خضمّ رتابة هذا المشهد، تأتي المسيرة التي تنظمها نقابة عاملات المنازل في لبنان تحت شعار حق التنظيم لجميع العمال في لبنان لمطالبة الحكومة اللبنانية بالاعتراف بها كتحرّك جدّي وحيد يلبّي فعلاً رمزية الأول من أيار كيوم عالمي للنضال للمطالبة بظروف عمل أفضل مستلهمة من تحركات وتاريخ الكفاحات العمالية في العالم.
في يوم عطلتهن الوحيد، الأحد، الذي يقع في الثالث من أيار وليس الأول منه، ستسير عاملات وعمال المنازل من أجل تأكيد حقهنّ وحق جميع العمال بإنشاء نقابة تمثلهن وتدافع عن حقوقهن ومصالحهن. على الرغم من أنها السنة السادسة التي تنظم فيها مسيرة العمال والعاملات المهاجرين في لبنان، إلا أن مسيرة الأحد 3 أيار تكتسب رمزية خاصة وأهمية بالغة، ليس فقط للعمال والعاملات المهاجرين، بل للحركة النقابية والعمالية الديموقراطية والمستقلة في لبنان، وذلك لأسباب عدّة.
أولاً، إنها المسيرة الأولى التي تنظمها وتقودها نقابة عاملات المنازل في لبنان الحديثة التأسيس، وذلك في ظلّ الهجوم العنيف عليها، بدءاً من وزير العمل، رافضاً الاعتراف بها، وصولاً إلى الاتحاد العمالي العام، ومعه نقابة أصحاب مكاتب الاستقدام، الذي سارع إلى السخرية منها وإطلاق النعوت العنصرية والمهينة بحق أعضائها.

عاملات المنازل هن
الفئة العمالية الأكثر
هشاشة
لقد تشكلت هذه النقابة، وعقدت مؤتمرها التأسيسي، كاسرة القيود التي وضعها قانون العمل على حرية وحق التنظيم وتشكيل النقابات، وكان مؤسسوها أكثر جرأة من فئات أخرى من العمال اللبنانيين. بذلك تستمدّ هذه النقابة شرعيتها من العمال والعاملات، لا من السلطة، معيدةً الاعتبار إلى النشاط العمالي النضالي الفاعل والمبادر، وبما يرسخ حق العمال والعاملات وقدرتهم على تغيير الواقع بكسر القيود وبفرض شروطهم على الأرض، بالرغم من إجحاف القانون. وذلك يكسر تقاليد نقابية مترسخة كانت دائماً تستجدي التغيير من السلطة عوضاً عن فرضه. فأعادت نقابة عاملات المنازل تفسير القانون وتأويله بالفعل عبر ترسيخ الحقوق العمالية والإنسانية الأساسية، وتحديداً حق التجمع والتنظيم، كالقاعدة الأصل للعمل بالرغم من النص القانوني الجامد. فبذلك تكون نقابة عمال وعاملات المنازل النقابة المستقلة والممثلة حالة فريدة ندر وجودها في المشهد النقابي اللبناني.
ثانياً، في ظلّ الركود العمالي المخيف، تمثّل نقابة عاملات المنازل بارقة أمل وعبرة للقطاعات العمالية الأخرى في لبنان. فعاملات المنازل في لبنان هن الفئة العمالية الأكثر هشاشة، إذ إنهن معزولات داخل المنزل، مشرذمات عددياً بين مواقع العمل/ المنازل، يتعرضن لأبشع الانتهاكات، معرضات للترحيل وهنّ تحت رحمة نظام الكفالة العبوديّ، فضلاً عن أن عملهنّ هامشي في بنية الإنتاج. فإذا استطاعت الفئة العمالية الأكثر ضعفاً أن تنظم نفسها بنجاح وتشكل نقابة تستطيع الدفاع عن حقوقها ومصالحها، فسيعني ذلك أن جميع الفئات العمالية اللبنانية وغير اللبنانية قادرة على تجميع وتنظيم أنفسها لمواجهة الانتهاكات التي تتعرض لها بنحو جماعي وموحّد.
ثالثاً، تجمع نقابة عاملات وعمال المنازل في لبنان عمالاً وعاملات من جنسيات مختلفة، بما فيها اللبنانية، أي إنها تشكل نموذجاً يحتذى به للتضامن العمالي العابر للجنسيات بعيداً عن خطاب الحركة النقابية القومي والعنصري الذي لطالما دعا إلى حماية العامل الوطني من منافسة العمالة الأجنبية، وليس حماية العامل أياً كانت جنسيته. فتأسيس مثل هذا التضامن ضروري وأساسي لبناء حركة نقابية ديموقراطية ومستقلة في لبنان تدمج العمال الأجانب، النساء العاملات والعمال غير النظاميين فيها وتضعهم في صلب حركتها.
أخيراً، دعم نقابة عاملات المنازل والانضمام إلى المسيرة في الثالث من أيار أساسي من أجل بناء حركة نقابية ديموقراطية ومستقلة تؤسس نفسها من الهوامش والأطراف بعد أن تآكلت واصفرّت النقابات الموجودة في القطاعات ومواقع العمل التقليدية التي كانت تعتبر استراتيجية في الاقتصاد الوطني. إن اندثار هذه القطاعات وظهور قطاعات جديدة يوجد فيها معظم العمال ويعملون بظروف عمل غير نظامية ومن دون أي حماية قانونية ونقابية يحتّم دعم إنشاء نقابات عمالية تنشأ بين أوساط هؤلاء العمال، الأمر الذي يعيد التوازن الاجتماعي ويتيح للعمال والعاملات من دون استثناء بناء قوتهم التفاوضية. فهذا يشكل الأمل الوحيد بالنهوض مجدداً بالحركة النقابية.
نجاح نقابة عاملات المنازل وحصولها على الاعتراف يشكل خطوة كبيرة وأساسية نحو كسر القيود القانونية وغير القانونية المفروضة على جميع العمال في لبنان والتي تمنعهم من تنظيم أنفسهم وبناء قوتهم الجماعية والنضال من أجل واقع ومستقبل أفضل.