د. غسان ديبة
في 9 نيسان الماضي وافق المجلس التنفيذي لصندوق النقد الدولي على قرض بحوالى 76,8 مليون دولار للبنان ضمن ما يعرف ببرنامج المساعات الطارئة لما بعد الحرب (EPCA)، وذلك (حسب الصندوق) من أجل «المساهمة في دعم البرنامج الاقتصادي للبنان لعام 2007».
لقد مر هذا الحدث الاستثنائي في لبنان من دون أن يثير الكثير من الأسئلة أو التعليقات من الأطراف السياسية أو الدوائر المعنية مباشرة بالحقل الاقتصادي. ربما (بحسب اعتقادي) لأن قيمة القرض لا تذكر نسبة إلى أحجام القروض التي اعتادها اللبنانيون، وخصوصاً بعد الوعود بالقروض الضخمة في اجتماعي باريس ـــ2 وباريس 3... لكن هذا القرض الأخير، على الرغم من ضآلته، له دلالات كثيرة، بل وتبعات كثيرة على مستقبل السياسة الاقتصادية والاجتماعية في لبنان.
إذا أردنا أن نبحث في الشكل، فهذا القرض يمثل أول اتفاقية بين لبنان وصندوق النقد الدولي على الرغم من مرور 15 سنة على بداية إعادة الإعمار وتراكم الديون العامة، وتحول لبنان إلى أعلى الدول مديونية في العالم منذ عام 1998 على الأقل، واتباع السياسات النيوليبرالية من سياسة نقدية متشددة إلى خفض الضرائب على الأرباح إلى محاولات الخصخصة وكل الرزمة المألوفة الآن للسياسات الاقتصادية منذ عام 1992.
لقد قاومت الحكومات المتعاقبة منذ ذلك التاريخ محاولات صندوق النقد للتدخل في رسم السياسات، وخصوصاً عند تشديده على وجوب تحرير سعر الصرف، إلى أن اقتنع منذ حوالى عامين بوجوب إبقاء سعر الصرف ثابتاً، بعد أن اكتشف، وإن متأخراً، الترابط الاقتصادي السياسي الداعم للنقد اللبناني والمؤلف من تشابك ميزانيات الدولة والمصارف التجارية والمصرف المركزي.
كما أن الحكومات المتعاقبة قاومت ضغوط الصندوق حول تنامي العجز الحكومي والدين العام في فترة إعادة الإعمار، وهنا لم يقتنع صندوق النقد بسياسات الحكومات اللبنانية، ربما لأنه لم يفهم الاقتصاد السياسي الداعم لهذه السياسات الإنفاقية الضخمة من دون قاعدة ضرائبية ملائمة والمؤلف من تشابك مصالح الرأسمال المالي مع مصالح التوزيع الطائفي والدعم الإنفاقي لدولة الطائف التي بدأت أسسها تنهار مع بداية تعمق الأزمة المالية للدولة في عام 2001، وخروج المنفّذ الخارجي لاتفاق الطائف (outside-enforcer) في عام 2005 من لبنان.
وإذا أردنا البحث في المضمون، فإن هذا القرض هو بداية لخضوع لبنان لشروط صندوق النقد الدولي في المستقبل. والمفارقة تكمن في أن هذا الخضوع للحكومة الحالية هو خضوع طوعي لأن البرنامج «الإصلاحي» الذي تقدمت به إلى مؤتمر باريس ـــــ3 يمثل أصفى أنواع السياسات النيوليبرالية من تخصيص شامل للمؤسسات العامة وتعديل قانون العمل لضرب ديمومة العمل وزيادة ساعات العمل وتصفية صناديق التقاعد العامة بما فيها الضمان الاجتماعي واستبدالها بأنظمة ذات طابع أكثر رأسمالية وزيادة الضرائب ذات الوقع التراجعي التي تصيب فئات الدخل الدنيا بشكل أكبر مثل الضرائب على المحروقات والقيمة المضافة. إذاً هذه الاتفاقية قد لا تؤثر على توجه السياسات الاقتصادية والاجتماعية، بل على شيء هو أخطر بكثير، هو تحول هذا البرنامج إلى برنامج إلزامي ضمن برنامج زمني محدد لا يمكن أي حكومة تعديله، وإلا تخاطر بخسارة الدعم المالي الخارجي من الدول المانحة وصندوق النقد.
تشكل الاتفاقية مع صندوق النقد بداية، وبالتالي فإن الخطوة الأولى في هذا الاتجاه قد اتخذت، لكن يجدر التنبه إلى أمرين مهمين:
أولاً، إن الاتفاقية مع الصندوق ستجعله مراقباً للتطورات الاقتصادية والمالية في عام 2007 ليرى مدى جدية الحكومة الحالية في تطبيق البرنامج الإصلاحي.
ثانياً، وهو الأهم أن الكثير من الدول المانحة سوف تنتظر تقارير وآراء صندوق النقد، على الرغم من عدم إلزاميتها، قبل تحويل الأموال الموعودة إلى لبنان في باريس ـــــ 3، وقد كان محسن خان، مدير دائرة الشرق الأوسط وآسيا الوسطى في الصندوق، واضحاً عندما أجاب عن سؤال عن قدرة الحكومة اللبنانية على تطبيق البرنامج الإصلاحي، فقال ما حرفيته: «إن الوعود (من باريس ـــــ 3) التي تساوي 7,6 مليارات دولار، هي على فترة خمس سنوات، لأن برنامج الحكومة هو على خمس سنوات، وإن تحويل هذه الأموال لا يخضع للموافقة المسبقة للصندوق... لكن الصندوق سيراقب التطورات في لبنان ويصدر تقارير حولها... وإنني أتوقع من المانحين أن يأخذوا تقاريرنا في الحسبان عند اتخاذ قراراتهم بتحويل الأموال أو عدم تحويلها».
إذا كانت هذه البداية، فماذا ينتظر لبنان في علاقته الجديدة مع صندوق النقد؟
في العام المقبل، إذا جرى كل شيء على ما يرام، فسيوقع لبنان ما يسمى stand-by-arrangement التي سوف توفر للبنان قرضاً أكبر بكثير من الصندوق، لكن هذه المرة مع خضوع لبنان الإلزامي لما يعرف بشروط صندوق النقد، وبالتالي ربط استكمال مساعدات الصندوق وغيره بالبرنامج الإصلاحي (+ plus) الذي ستوقعه الحكومة مع صندوق النقد الدولي.
إن هذا الاستحقاق الكبير (المرتبط بغيره من الاستحقاقات) يتطلب إقامة برنامج اقتصادي بديل يجنب لبنان التحولات الاقتصادية والاجتماعية التي ستضر بمصالح الغالبية الكبرى من اللبنانيين ضمن إملاءات صندوق دولي بدأ يفقد دوره في العالم بعد إنهاء الكثير من الدول النامية تعاملها مع الصندوق، إن لأسباب وطنية أو إيديولوجية، إو ببساطة بسبب توافر السيولة على المستوى العالمي بشكل كبير. إن هذه الاتفاقيات ستحوِّل لبنان إلى حقل تجارب جديد لسياسات ثبت فشلها في جميع أنحاء العالم، لأن للذي لم يصله الخبر حتى الآن «أن توافق واشنطن قد مات».