د. كمال حمدان
•أنظمة الاستهداف العائدة للقطاع الطائفي الأهلي تعيد إنتاج الاصطفافات التقليدية

أعدّ رئيس القسم الاقتصادي في مؤسسة البحوث والاستشارات د. كمال حمدان، ورقة بعنوان «حول أزمة المواطنية الاجتماعية ونظام الطوائف في لبنان»، وهي عبارة عن مسوَّدة للنقاش في إطار العمل الجاري من أجل إعداد التقرير الوطني للتنمية البشرية لعام 2008، الذي سيصدر عن برنامج الأمم المتحدة الإنمائي في خلال العام الحالي، وتنشر «الأخبار» معظم فصول هذه الورقة على حلقات إسهاماً منها في تعميم النقاش

إن التحليل المكثّف للنتائج التي انطوت عليها التدخلات الاجتماعية، ولا سيما الحكومية منها، يبرز وجود العديد من المعضلات التي تحدّ من درجة فاعلية هذه التدخلات. وتتوزع هذه المعضلات الوثيقة الارتباط، على أربعة مستويات أساسية كالآتي:
أ ـــــ على مستوى حجم التزامات الدولة في الشأن الاجتماعي ونوعها، حيث يلاحظ أن النصوص القانونية والتشريعات الناظمة للحقوق الاجتماعية راهناً في البلاد، تتميز بقدر من العمومية لا يساعد على تحديد النطاق الملموس والدقيق الذي يفترض أن تبلغه أو تقف عنده تلك الالتزامات، وينطبق هذا على معظم المجالات التي تطال تلك الحقوق، في الصحة والتعليم والرعاية الاجتماعية وغيرها من المجالات. ويترتّب على طغيان العمومية وعدم القدرة على تحديد دقائق الالتزامات، نوعان من الاحتمالات: فإما أن تضطر الدولة بشكل قسري إلى إقرار تدخلات موضعية مرتجلة تحت ضغط «اللحظة» كردّة فعل على وضع قائم، فتميل بعدها هذه التدخلات واقعياً نحو اكتساب طابع دائم حتى لو لم يكن يراد لها ذلك لدى اتخاذ القرار، أو أن يبادر القطاع الخاص والقطاع الطائفي/ الأهلي إلى ملء الفراغ إذا ما تلكأت الدولة عن الاضطلاع بمسؤولياتها، فيفرض هذان القطاعان نفسيهما إذّاك موردَين للخدمة العامة بالشروط التي تلائمهما، مع السعي الى إجبار الدولة بشكل تدريجي على تمويل، أو الإسهام في تمويل، إنتاج هذه الخدمة العامة. وغالباً ما تنتهي الدولة إلى التجاوب مع مثل هذه الاحتمالات انطلاقاً من مقاربتها «التوزيعية» البسيطة، الأمر الذي يرتب كلفة أكبر على الدولة والمجتمع عبر إنفاق يخرج بشكل عام عن سيطرتها، لجهة إدارته وفعاليته ونوعيته، فضلاً عن المستهدفين النهائيين منه.
ب ـــــ على مستوى إنتاج الدولة المباشر للخدمة الاجتماعية العامة، حيث تبرز تشابكات وتقاطعات شديدة التعقيد، تجعل من الصعوبة بمكان معرفة من يقرر الاستثمار في هذا الإنتاج، ومن يشرف على تنفيذه وصيانته، ومن يتولى تشغيله وإنتاجه المباشرين، ومن ينسّق ويراقب كل هذه الأعمال، ومن يتثبت من محصلة نتائجها النهائية على موضوع الحقوق الاجتماعية للمواطنين.
وتتداخل في هذا الحقل وتتزاوج مسؤوليات مجلس الوزراء والوزارات المعنية وبعض المؤسسات العامة ومجلس الإنماء والإعمار، إضافة إلى الجهات المانحة (إن وُجدت)، على نحو ينتج التوليف الواقعي لأوضاع هذا القطاع على قواعد تنقصها الشفافية والمعايير المهنية الواضحة، الأمر الذي ينعكس بطئاً في التقدم والإصلاح. هذا مع العلم أن دور الدولة في كونها منتجاً مباشراً للخدمة العامة يكاد ينحصر في مجال التعليم الرسمي، العام والمهني والجامعي، وما عدا ذلك ينتج معظمه من القطاع الخاص والقطاع الطائفي/ الأهلي، ويُمَوَّل عبر الدولة وعبر نظم التأمينات العامة وشبه العامة.
وتبرز المشكلة الرئيسية ـــــ في حالة الإنتاج المباشر للخدمة العامة من جانب الدولة راهناً، في التردي الحاد في مؤشرات الإنتاج وتكاليفه وعوائده، بالمقارنة مع المؤشرات المحققة من القطاع الخاص. واللافت أن هذه العلاقة كانت معكوسة قبل اندلاع الحرب الأهلية ـــــ حيث كان العام منافساً بل سباقاً للخاص ـــــ ما يؤكد أن الجدوى الاقتصادية للإنفاق ليست مرتبطة أساساً بطبيعة الملكية (خاص، عام) بقدر ما هي مرتبطة بنوعية الإدارة. ومع ذلك فقد كافأت السلطات العامة موظفيها ـــــ تعويضاً عن سوء الإدارة العامة التي تتحمل مسؤوليته تلك السلطات ـــــ بأن وفرت لهم، عبر أموال المكلفين نفقات تعليم أولادهم في المدرسة الخاصة، ما يطرح تساؤلات عن مدى جديتها في إصلاح التعليم الرسمي.
ج ـــــ على مستوى تمويل الدولة لخدمات اجتماعية ينتجها القطاع الخاص والقطاع الطائفي/الأهلي، حيث يلاحظ أن ارتفاعاً استثنائياً قد سجل في هذا النوع من التمويل خلال العقدين المنصرمين، ولا سيما إنفاق وزارة الصحة على استشفاء غير المضمونين في المستشفيات الخاصة، وإنفاق وزارة الشؤون على معظم أعمال الرعاية الاجتماعية. ويكاد يكون مؤكداً أن انهيار الإدارة العامة خلال الحرب وعجز الحكم (أو عدم رغبته) عن إصلاحها بعد انتهاء الحرب، هما اللذان أفسحا المجال أمام القطاع الخاص والقطاع الطائفي/ الأهلي للدخول كيفما اتفق إلى هذا الميدان، وبتشجيع وأحياناً بتمويل مباشر من جانب الدولة نفسهاوتبرز المشكلة في الوظيفة التمويلية للدولة على غير صعيد: مدى قدرة هذه الإدارة العامة المأزومة بنيوياً، على الرقابة على معايير هذا الإنتاج ونوعيته وآلية تسعيره ودرجة التكامل بين مكوناته ومدى توفيره فرصاً متكافئة للمستفيدين منه، إلى غير ذلك من القضايا. وترتدي المشكلة أبعادها الحقيقية والأكثر تأثيراً عندما نرى ازدياد التشابك في المصالح بين القطاعين الخاص والطائفي/ الأهلي من جهة، والسلطات العامة من جهة ثانية، حيث ينتج هذا التشابك موضوعياً ازدواجية في الولاء والمرجعيات ـــــ التي يشجعها الطرف الأول ولا يتوانى الطرف الثاني عن الرضوخ لها ـــــ ما يضغط عملياً في اتجاه عرقلة عملية إصلاح موضوع الخدمة الاجتماعية العامة، ويحول دون إكسابها طابعاً مدنياً مستمداً من مبادئ حقوق الإنسان، على حساب طابعها الطائفي الضيق. ففي مثل هذه الظروف يسهل تصوير أي إجراء إصلاحي مقترح كأنه موجه إلى هذا الطرف الخاص الطائفي الأهلي أو ذاك، ما يكرس هدر الجهود الإصلاحية أو إبقاءها تدور في حلقة مفرغة، وسط غياب الرؤية الاستراتيجية والإرادة السياسية المحددة المعالم والأهداف.
د ـــــ على مستوى الفئات الاجتماعية المستهدفة، حيث تتضافر آثار العوامل المحددة أعلاه لتنتج في أغلب الأحيان خليطاً غير متجانس من أنظمة الاستهداف التي تتفاوت بنيتها ونطاق شمولها كما تتباين فيها المعايير وشروط الاستفادة وسقوفها بحسب أنواع التدخلات الاجتماعية. فللدولة ـــــ بوصفها منتجاً مباشراً لجزء من الخدمة الاجتماعية ـــــ معاييرها وشروطها، ولكل من القطاع الخاص والقطاع الطائفي/ الأهلي معاييره وشروطه أيضاً، حتى لو كان هذان الأخيران يخضعان على الأقل جزئياً لرقابة الدولة. وينطبق هذا إلى حد كبير على التدخلات المباشرة وغير المباشرة للجهات المانحة، التي تمتلك معايير وشروطاً خاصة بها، غالباً ما تكون أكثر تحديداً وتفصيلاً.
ووسط «غابة» المعايير والشروط هذه، غير المندرجة في إطار «عقلانية» منسقة ومستندة إلى الأساسي من مبادئ الحقوق الاجتماعية للإنسان، تضعف إلى حد كبير قدرة الدولة على توظيف أنظمة الاستهداف، في خدمة فكرة انتماء المواطن إلى دولة وإلى وطن، كما تضعف قدرتها على بلورة مرتكز اجتماعي لـ«وطنية لبنانية» من نوع جديد. في المقابل فإن أنظمة الاستهداف المرتبطة بالقطاع الخاص تميل إلى تكريس أشكال من التمييز الاجتماعي تبعاً لتفاوت قدرة الفئات الاجتماعية المختلفة على الإفادة أو عدم الإفادة منها. فيما تعمل أنظمة الاستهداف العائدة إلى القطاع الطائفي الأهلي على إعادة إنتاج الاصطفافات التقليدية المحكومة بعصبيات طائفية ومناطقية وعائلية ضيقة، وذلك بالرغم من أن معظم التقديمات الاجتماعية المتأتية عنها ممولة من الدولة نفسها، وتكتفي مؤسسات هذا القطاع بالاضطلاع بدور وسيط في هذا المجال.
وينطوي هذا السلوك على تقصير الدولة الفاضح إزاء عدم إصرارها على استخدام هذا النوع من التقديمات التي تتولى هي تمويلها لتقوية فكرة انتماء المواطن إليها بدل استمرار ارتهانه لتلك العصبيات. وهذا النوع من التقصير هو سمة عضوية من سمات النظام الطائفي نفسه. وعلى مستوى آخر، من الواجب لدى الحديث عن نظام الاستهداف، التمييز بين مسألة بناء الحقوق الاجتماعية الأساسية للمواطن من جهة، ومسألة مكافحة الفقر من جهة أخرى. فالموضوع الأول يطال الشرائح الأساسية من السكان، ولا سيما الطبقة الوسطى والفئات غير الميسورة، وهو أوسع نطاقاً وأكثر شمولاً بكثير من الموضوع الثاني الذي يتركز في جيوب مناطقية أو اجتماعية جزئية محددة. وإذا كانت الأولوية المباشرة في المدى القصير تقضي بصب الاهتمام على الموضوع الثاني لسخونته، فإن إرساء قاعدة المواطنية الاجتماعية لا يتحقق ما لم تُحَدَّد وتُنَفَّذ الرؤية الاستراتيجية المتعلقة بالموضوع الأول. وينبغي التنبه من الانزلاق، سواء عن وعي أو عن غير وعي، نحو التعامل مع أحدهما بديلاً للآخر، لأن ذلك ينطوي على خطأ فادح.



مرتكزات المواطنية الاجتماعية

يمكن أن نفهم بوضوح أكبر حيثيات المسارات التي انتظمت تطور الواقع الاجتماعي في البلاد. فمن أهم المفارقات التي تميز الوضع اللبناني في المقارنات الإقليمية والدولية المتاحة، أن الدولة والمجتمع عموماً يتكبدان نفقات كبيرة نسبياً على الشأن الاجتماعي، من دون أن يترافق هذا مع نتائج متناسبة. وتصل هذه النفقات إلى اكثر من 21 في المئة من إجمالي الناتج المحلي، بما يشمل قطاعي الصحة والتعليم أساساً، إضافة إلى جزء من الإنفاق على الرعاية الاجتماعية. ويجري تمويل أكثر من 70 في المئة من هذا الإنفاق، عبر الاسر والقطاع الخاص والأهلي. وتقل نسبة مساهمة الدولة (المقدرة بنحو 6% من إجمالي الناتج) بوضوح عن مثيلها في بلدان المنطقة حيث تصل إلى 9 في المئة في المغرب و10 في المئة في مصر وأكثر من 14 في المئة في كل من تونس والأردن والجزائر. وبالرغم من ضخامة هذا الإنفاق، فإن المؤشرات التفصيلية المتاحة لعوائده في لبنان، تعكس ضعف هذه العوائد، بحسب ما سيتبين من تحليل الواقع الراهن للمرتكزات الأساسية للمواطنية الاجتماعية في الإطار اللبناني، وأهمها الصحة والتعليم والتأمينات الاجتماعية، إضافة إلى مكافحة
الفقر.



الجزء الأول | الجزء الثاني | الجزء الثالث