تشير الساعة إلى التاسعة والنصف قبل ظهر أمس. نفايات «سيّارة»، تعبر شارع مار تقلا في منطقة سدّ البوشرية: علب بلاستيك، فضلات مأكولات، قناني زجاج، ورق حمامات، حفّاضات وغيرها... تمضي «وفوداً» مع السيول، تواكبها أنواع مختلفة من الحشرات الطائرة والذباب. يستقر بعضها أمام المقهى الصغير، عند مدخل الحي، موصداً الباب أمام الرواد، مُنبئًا زائري الشارع: «الطريق مقطوعة!»، فيما تستكمل «وفود» النفايات الأخرى مسيرها نحو مداخل البيوت ومواقف السيارات.
بقي الأهالي محتجزين في منازلهم حتى ساعات الظهر الأولى. تسمّروا على شرفات منازلهم وشبابيكهم، التقطوا صور الشتوة الأولى. هكذا سيكون الشتاء إذاً!
هذا المشهد كان من جملة مشاهد مماثلة تكررت في مناطق عدة. في الكرنتينا، «معقل» النفايات المكدّسة، المنطقة الموبوءة أصلاً، لم يكن ينقصها سوى القليل من الأمطار لتتضاعف الروائح السامة المنبعثة منها، وتنفجر نفاياتها «المكبوتة» في الأرجاء، ولا سيما على ضفاف نهر بيروت. في الضاحية الجنوبية، غصّ مدخل مخيم صبرا (محطة الرحاب) بأكوام النفايات، التي تسلل بعضها مع الأمطار نحو الشوارع الجانبية للمخيم. وفي النبطية، كان المشهد شبيهاً بمشهد سدّ البوشرية، إذ جرفت السيول النفايات المتراكمة في الشوارع ووزعتها على مداخل الأبنية والمحال التجارية. ولم يكن الحال أفضل في عكار، فعلى الرغم من أن النفايات لم تتراكم في الشوارع، إلا أن رمي النفايات العشوائي داخل قنوات الصرف الصحي، وقنوات الري، أدى إلى عدم قدرة القنوات على تصريف المياه التي فاضت في الشوارع حاملة معها أكياس النفايات. في بقية المناطق، في بيروت والضواحي فاضت الطرقات بالمياه كالمعتاد. غرقت الأوزاعي والزلقا والشويفات وعلق المارّون في الفخ المعتاد.

شهيب: الوضع
سيزداد سوءاً إن لم يجرِ تجاوز العوائق السياسية


«لو فيي جمّع هل الزبالة وحطها قدام بيوت الزعما، ليتسمموا ما بقصّر»، بلهجة غاضبة تصرخ مدام عرموني (كما تعرّف عن نفسها)، معبرة عن امتعاضها من المشهد «اللي صار مخليني أكفر 3 مرات من عبكرا». لم تستطع السيدة أن تترجم غيظها إلا عبر شتائم تكيلها للسياسيين: «عم بيحضروا للماراتون الأحد الجاي، وتاركينا نغرق بماراتون الزبالة، لو شي قنبلة أقدر فجّرها فيهن، الله لا يوفقن». تمسك السيدة مكنستها محاولة إزاحة النفايات المتراكمة عند مدخل البناية بمساعدة ابنها إيلي، الذي قرر أن يأخذ المبادرة ويُساعد موظفي البلدية. يعتبر داوود عيسى (72 عاماً)، أحد سكّان الحي، أن «الشعب مذنب أكثر من السياسيين الذين نشتمهم يومياً، لو كنا إيد واحدة ما كان هيدا حالنا».
يقول رئيس بلدية سد البوشرية طانيوس جبارة إن ما حصل هو نتيجة الأمطار الغزيرة التي جرفت مكب النفايات على الطريق، «البلدية ليست معنية بالأمر، إنها مسؤولية سوكلين، كنا كبلدية نزيل النفايات ونضعها منذ ثلاثة أشهر في المدينة الصناعية وقد تشكل جبل من النفايات هناك ولم تعد هناك قدرة على وضع المزيد»، مضيفاً: «لا يمكن أن تكون سوكلين ملتزمة مسألة النفايات ثم فجأة تصبح مسؤولية البلدية». يشير رئيس دائرة الصحة والنظافة في البلدية غسان خوري إلى أن «البلدية لديها المال الكافي، فليضعوا خطة ونحن مستعدون لدفع الأموال والتجاوب».
المكب الذي يشير إليه جبارة هو عبارة عن عقار تبلغ مساحته 5 آلاف متر مربع، وهو المكان الذي نقل إليه موظفو البلدية، أمس، النفايات التي غصت في شارع مار تقلا. من يدخل إلى العقار، يشاهد نموذجاً جديداً من جبل النفايات «المعمم» في الكثير من المناطق: نفايات مكدّسة تحتضن قوارض وحشرات وتخبئ أمراضاً تنتظر القاطنين هناك.
الخبراء يحذرون من خطر الأمراض الذي ستنتجه «عُصارة» هذه النفايات، لذلك تبقى الأنظار شاخصة إلى ترتيبات وزارة الصحة وتدابيرها الاحترازية. يُقرّ وزير الصحة العامة وائل أبو فاعور في اتصال مع «الأخبار»، بـ «أن المحظور وقع»، إلا أنه يتساءل :»ما الذي يمكنني أن أفعله؟ هل من اقتراحات؟». ماذا عن خطة طوارئ صحية لتدارك تداعيات الأزمة الصحية؟ يجيب أبو فاعور بأنه يجري التحضير لمثل هذا النوع من الخطط: «بعدنا عم ندرسها». ويلفت الوزير إلى أنه تواصل مع الجهات المعنية سعياً إلى التنسيق معها، مشيراً إلى أن «لا نتائج فعلية لنبني على أساسها حالياً»، لافتاً إلى «أنه على الرغم من التهويل الحاصل، لا يوجد تسجيل لإصابات الكوليرا أو غيرها من الأمراض». الوزير نفسه صرّح في ما بعد بأنه «سيكون على وزارة الصحة القيام بالكثير من الإجراءات لتفادي الأسوأ وأن هناك أضراراً صحية وبيئية لم يعد يمكن تداركها بل التخفيف من ضررها نتيجة الترسبات والتأثير على المياه والمزروعات»، كاشفاً أنه «سيكون للوزير أكرم شهيب جولة تداول أخيرة سيكشف بعدها المستور إذا لم تُنفذ الخطة».
من جهته، يقول شهيب لـ «الأخبار» إن ما يحصل اليوم «سبق أن نبهنا منه ولتتحمّل الأطراف السياسية المعنية مسؤولياتها»، لافتاً إلى أن «العوائق التي تحول دون تنفيذ خطة النفايات ليست بيئية ولا علمية، بل سياسية»، مضيفاً: «لقد بذلت جهدي في هذا المجال وعلى الأطراف السياسية أن تبذل جهدها في هذا الإطار». ما الحل إذاً؟ يجيب شهيب بلهجة من لا حول له ولا قوة: «الوضع سيزداد سوءاً إن لم يجرِ تجاوز العوائق السياسية».