الطريق إلى تفاحتا (الجنوب- قضاء الزهراني) تمر بالوادي الذي لا يزال يحتفظ بطبيعته البكر، جبال من الأحراج الخضراء تضم أنواعاً كثيرة من الأشجار منها ما هو نادر أو على شفير الانقراض، زقزقة العصافير التي تجد في تلك الاحراج والبساتين مكاناً آمناً لأعشاشها، وصوت خرير المياه الذي يجري إلى جانب الطريق، مشهد «ضيعاوي» بامتياز، لولا أن المياه في ذلك النهر سوداء، ذات رائحة كريهة، يحوم فوقها الذباب والبعوض وأنواع أخرى من الحشرات الضارة، التي تزداد غرابتها مع الزمن.
يمرّ هذا «المجرور» على نحو مكشوف في مجموعة من القرى عبر خطين رئيسيين، ينطلق الأول من بلدة كفررمان مروراً بحبوش، الكفور، كفروة، والثاني يأتي من النبطية الفوقا مروراً بقرى زبدين، حاروف، تول، الدوير، الشرقية، ليلتقيا في وادي النميرية، ويُكملا إلى وادي تفاحتا فالعاقبية ليصبا في البحر في نهاية المطاف. يبلغ طول المجرى حوالى 12 كليومتراً وتتضرر منه على نحو مباشر أكثر من 13 قرية، تتوزع بين محافظتين.
تبنى اتحاد بلديات الشقيف منذ عامين معالجة الضرر على بعض القرى الواقعة ضمن نطاقه، عبر اطلاق العمل في مشروع جرّ مياه الصرف الصحي بواسطة أنابيب اسمنتية مقفلة على الخط الثاني، من بلدة تول، حيث أقيم معمل لتكرير مياه الصرف الصحي، حتى حدود بلدة النميرية، المنطقة العقارية الأخيرة التي تقع ضمن حدود الاتحاد، بطول حوالي 5 كلم. جرى تقسيم المشروع على أربع مراحل نظراً لتكاليفه الكبيرة، أُنجزت منها خلال العامين المنصرمين المرحلتان الأولى والثانية، وشملتا نصف طول المجرى، أي 2.5 كلم، الذي يمتد من بلدة النميرية حتى الشرقية، بكلفة تقريبية تصل إلى 800 مليون ليرة، وباقي النصف الآخر من بلدة الشرقية حتى بلدة تول. من المتوقع أن ينجز خلال العامين المقبلين، لكن رئيس بلدية النميرية علي زبيب يستبعد ذلك لأن «ميزانية الاتحاد تستهلك في هذه الأيام لمعالجة أزمة النفايات»، وبذلك تكون النميرية، وهي البلدة الأكثر تضرراً، قد تخلصت من مشكلة أرّقت سكانها على مدى سنين طويلة، وحرمتهم استصلاح أراضيهم وعرّضتهم لآفات صحية وبيئية.
إلا أن هذا الحل الجزئي أضرّ كثيراً ببلدة تفاحتا، التي تقع ضمن اتحاد بلديات ساحل الزهراني، فالمياه التي كانت تتشرّبها التربة على طول المجرى الذي تمرّ به، أصبحت الآن محصورة في قنوات مغلقة، ما أدى إلى اشتداد تدفقها، وإلى توسع المجرى الذي تسلكه.
وبرغم المناشدات والمطالبات للمراجع السياسية والحزبية والنيابية، لا تزال المشكلة قائمة، وهي ليست حديثة العهد، بل يصل عمرها إلى أكثر من 25 عاماً، ويزداد تفاقمها عاماً بعد عام، مع ازياد عدد السكان، «وهي فوق قدرة البلدية على حلّها، فوارداتها لا تتخطى 290 مليون ليرة، وهذا المشروع يحتاج إلى ملايين الدولارات»، يقول رئيس بلدية تفاحتا أحمد كوثراني، ويفوق ميزانية اتحاد بلديات ساحل الزهراني، كما يشرح رئيسه علي مطر.
المشكلة ليست مرتبطة ببلدة تفاحتا فحسب، بل إن جميع قرى الاتحاد الثماني عشرة تفتقر إلى البنى التحتية، وما من شبكات صرف صحي في كل المنطقة، حيث يعمد السكان إلى حفر جور صحية، أو تمديد الأنابيب إلى الأحراج، حيث تتكوّن العشرات من أنهار الصرف الصحي المكشوفة في الأودية لتصب في البحر!

يجري التفاوض مع الصندوق الكويتي للتنمية الاقتصادية لتأمين التمويل اللازم


يتمثل المشروع «الحلم» بالنسبة إلى المنطقة في إنشاء شبكات للصرف الصحي في كامل قرى الاتحاد، بما فيها تفاحتا، بطول حوالى 400 كلم، وربطها عبر محطات ضخ بالمحطة الرئيسية للتكرير المزمع إنشاؤها في منطقة الزهراني، وهو المشروع الذي وضعه الاتحاد على لائحة أولوياته منذ تأسيسه عام 2009، والذي ناضل لسنوات من أجل أن يضعه مجلس الانماء والاعمار على لائحة أولوياته أيضاً، وقد كان مقدراً أن يبدأ العمل به منذ عام 2013، اذ ان دراساته الأولية والتنفيذية منتهية منذ عام 2012، إلا أن تجاذبات سياسية لها علاقة بالمحاصصات الطائفية حالت دون ذلك، لكن مطر متفائل، اذ ان المراحل الأصعب من المشروع قد أنجزت، ويجري اليوم التفاوض مع الصندوق الكويتي للتنمية الاقتصادية العربية لتأمين التمويل اللازم. تقدر كلفة المشروع بـ70 مليون دولار، وكان من المفترض بأن تقوم بعثة من الصندوق في 6 أيلول الماضي بزيارة لبنان لتقييم المشروع والتوقيع بالأحرف الأولى على مسودة اتفاقية قرض للمساهمة بتمويله، إلا أن «الظروف الحالية التي يعيشها لبنان أجلت بعثة الصندوق إلى موعد يحدد لاحقاً»، بحسب ما جاء في كتاب مرسل من الصندوق إلى مجلس الانماء والاعمار. وبانتظار الأموال، يتمنى المتضررون ألا تُهدر نتيجة عدم التخطيط- على أقل تقدير عملاً بحديث النوايا الحسنة - كما حصل مع معمل تكرير المياه الذي أنشأه مجلس الانماء والاعمار ليحل مشكلة المياه الآسنة من منطقة النبطية وجوارها بكلفة 5 ملايين دولار، وإذا به بدلاً أن يقام على نقطة التقاء خطي المجاري، أقيم في بلدة تول على الخط الثاني من المجاري وبالتالي لم تشمل المعالجة الخط الأول، وعادت المياه المكررة والآسنة لتختلط مع بعضها بعضا، فاضطر المجلس بعد ذلك إلى إنشاء محطة لضخ المياه من الخط الأول إلى المعمل كلفت حوالي مليون دولار أخرى، لم تشغّل حتى الآن بسبب رفض شركة الكهرباء تزويدها بالطاقة اللازمة نتيجة خلافات مالية بين وزارة الطاقة والمياه ومؤسسة الكهرباء!
وفي هذا الوقت، تدفع تفاحتا وقرى اتحاد بلديات ساحل الزهراني الثمن من صحتها، فالقرية لا تزال مختبراً لحلول ناقصة أو حلول بعيدة الأجل قد لا يبدأ تطبيقها قبل أن تتلوث جميع آبارها الجوفية. إشارة إلى أن أكثر من 30 قرية تتغذى من المياه التي تضخها الآبار الجوفية للبلدة، والتي تبعد كليومترات قليلة عن مجرى نهر المياه الآسنة، فيما يتعدى التلوث القرى ومياهها الجوفية ليصل إلى البحر، الذي من المفترض أن الدولة اللبنانية تعهدت بعد توقيعها اتفاقية برشلونة حماية البيئة البحرية والمنطقة الساحلية للبحر المتوسط من التلوث، لكنها لا تزال تصب فيه 930000 م3 من المياه الملوثة على طول الشاطىء اللبناني كل يوم وعلى مدار السنة!