جبل أونزين، كيوشو، اليابان، الساعة الثالثة وثماني عشرة دقيقة مساء الثالث من حزيران (يونيو) 1991: تتدفّق الحمم البركانية، سحابة من الغازات والجزئيات شديدة الحرارة، تنزل من قمة البركان، تبتلع كل شيء في طريقها. عالما البراكين الفرنسيان كاتيا وموريس كرافت، كانا قريبين جداً من البركان، وقُتلا على الفور. هذا الحدث المؤسف هو المعلومة الأولى التي يقدّمها لنا ويرينا إياها فيرنر هيرتزوغ في فيلمه «النار الداخلية: ترتيلة لكاتيا وموريس كرافت» (2022) الذي عُرض ضمن «شاشات الواقع» في بيروت. بدأ هيرتزوغ بهذه المعلومة وبدأنا بها في هذه المقالة، لأنها نموذج لفهم طموحات ونتائج هذا الفيلم الوثائقي، في يد صانع أفلام ذي وجهة نظر خاصة حول فهم السينما. في هذا الفيلم، اعتمد هيرتزوغ على أرشيف أفلام العالمَين، ليكشف لنا افتتان البشرية بإحدى أعنف القوى الطبيعية على كوكبنا. هيرتزوغ نفسه ليس بعيداً عن هذه البراكين، هو الذي قدم عام 2016 وثائقي «في قلب البركان» الذي جال لأجله على العديد من البراكين الناشطة في العالم. هنا تصبح، هذه القوة العظيمة، البراكين في حقيقتها العلمية، خلفيةً لمناقشات فلسفية وتاريخية تؤثر يومياً على حياة الملايين. فيThe Fire Within: A Requiem for Katia and Maurice Krafft، تتمثل مهمة هيرتزوغ في معرفة كيفية استخراج الجمال والشعر من الصور غير العادية، بفضل المونتاج والموسيقى، وقدرته على قراءة القوة المهلوسة للسينما. إنها تلك الرحلة الروحانية التي يخلقها الألماني في أفلامه، إذ يسلك طريق التقشّف الوثائقي، وينتهي به الأمر إلى ذروة الحساسية في فيلم مليء بالاستكشافات.
كما هي الحال في جميع أفلامه الوثائقية، الراوي في هذا الفيلم هو هيرتزوغ نفسه، بصوته ونبرته المميزة. يجد هيرتزوع دائماً المسافة المناسبة للحديث عن العالمَين وعن حياتهما العملية وأيضاً عن كونهما زوجين، فالزواج هنا ليس عقداً دينياً أو اجتماعياً بل شيئاً مميتاً، مفارقة ليست قاسية أبداً بل مُبدعة. حتى مع اقتراب نهاية حياتهما، وفي أكثر اللحظات إثارةً مع موسيقى آنا غابرييل، يبدو أن ما يدور في الفيلم هو إعجاب هيرتزوغ بالزوجين، لفكرتهما عن الحياة والموت والزواج ولإدراكهما لما يفعلانه كتوأمَي روح. في إحدى مراحل الفيلم، يعلّق هيرتزوغ أنه كان سيحب مقابلتهما، هما اللذين لم يترددا في تعريض نفسيهما للموت من أجل تأمّل ــ عن قرب ــ الجمال الطبيعي الذي ينشأ من تشوّهات الأرض. «النار الداخلية...» هو تكريم للزوجين، لفئة من المغامرين العلماء المخرجين. تحوّل فضول هيرتزوغ في الفيلم إلى الزوجين وطريقة تصويرهما للبراكين، حيث الجمال والفوضى يخلقان رابطة الحب. إنها علاقة مجنونة، سامة لكن رائعة، مثل ممارسة الحب على حافة منحدر. في المشاهد التي صوّراها واختارها هيرتزوغ لصنع فيلمه، يبدو الأمر كما لو أنّ العالمين نسيا للحظة وعيهما العلمي، وأرادا مشاركتنا هوسهما بجمال الفوضى البركانية بعيداً عن النظريات العلمية أو حتى السينمائية. وهنا يكتسب الفيلم أعلى مستوياته، في ذروة جميلة يبدو أنها تركت هيرتزوغ نفسه عاجزاً عن الكلام، إذ يتلاشى صوته في الخلفية حتى يختفي. يقف عاجزاً أمام اثنين من المخرجين المفتونَين بتألق البراكين ومقتنعَين بضرورة دراستها عن قرب رغم إدراكهما أنهما يحكمان على نفسيهما بالموت.
فيلمه «النار الداخلية» تحيّة إلى عالمَي البراكين الفرنسيَّين كاتيا وموريس كرافت


في لقطات كاتيا وموريس، نرى الموتى والأماكن الميتة والطاقة الحيوية وقوة الطبيعة المدمرة. وثائقي هيرتزوغ هو إجلال لهما، قيامة للروح التي قادت صانعي الأفلام إلى رسم الواقع المميت جمالاً يتجاوز حدودنا. «النار الداخلية» ليس سيرة شاملة، بل شهادة لتراث صورهما، وتعليق هيرتزوغ عليها، وهو في الغالب تعليق سينمائي ونقدي. على سبيل المثال، تعامل هيرتزوغ مع بدايات حياتهما المهنية كما يتعامل مدرّس السينما مع تلاميذه المحبوبين الموهوبين. يقول المخرج إنه كان يودّ أن يسحبهما بينما يخاطران بالموت في أندونيسيا وألاسكا، وينتقد تمثيلهما المزيف في أيسلندا ونهجهما السينمائي في جزيرة فواكانو، ويحب براءة بعض أعمالهما الساخرة التي ارتدى فيها موريس زي جاك كوستو، وتأثر برؤية كاتيا وهي تتظاهر بأنها تصطدم بالمياه الساخنة من نبع ماء مغلي. يلاحظ كيف تمكن الزوجان فجأة من لحظة إلى أخرى، من الجمع بين شغفهما بالسينما، هذه السينما التي تهدف إلى أن تكون عملاً مغامراً لمشاهدة المستحيل. طوال الفيلم، نشعر بقوة تقدير هيرتزوغ لزميلَيه، يحول صورهما إلى شعلة حنين لا نهائية، وحريق داخلي يتوافق مع رغبة مجردة لا يمكن تحديد مسارها نحو الحياة أو الموت، الخلق أو الدمار وبين العين المجردة والعين الميكانيكية التي يتم من خلالها التقاط صورهما. «النار الداخلية» يعطي فيها الموت شكلاً للحياة، وخيالاً خارج الشاشة.