يمشي Aftersun (2022) على رؤوس أصابعه، بحركات ورقصات رشيقة بين الذكريات والميلانكوليا والأحاسيس اللحظية لكل من كولوم (بول ماسكال) وصوفي (فرانكي كوريو) ونحن. قصة واقعية لدرجة أنها تبدو كأنها حلم في أكثر لحظاتها حميمية. ويبدو أن تركيا، منطقة العطلة لكل من كولوم وصوفي، هي حالة ذهنية لا منطقة جغرافية، حلم يقظة يعيشه الاثنان وربما لن يتكرر. وينطبق ذلك على علاقتهما التي تصل خلال تلك الرحلة إلى ذروتها. علاقة ربما لم توجد، وربما تكون موقّتة فقط، أو على العكس، ستبقى مشبعة إلى الأبد. يتفاوض الوقت مع الصور لاستحضار روح، روح الأب الشاب، الذي يحب التدخين على الشرفة والرقص، ويغمض عينيه قليلاً، في إجازة مع ابنته، يبدو أنها تدوم أبداً أو يوماً. «بعد الشمس» فيلم حزين عميق، يعيد النظر في لحظة سعيدة، لكنها تركت جروحاً وصدمات نفسية وحسابات معلقة يمكن مع مرور السنوات قياس تفاصيلها ومعالجتها، وبطريقة ما تلتئم وتستقر. شيء مشابه للمصالحة بعد الإحباطات الحتمية في الحياة وخيبات الأمل مع الوالدين. هناك تفاصيل مخصّصة لذلك الرابط الذي يوحّد علاقة صوفي مع والدها، ووزن جسدها الجريح وابتسامتها المتقطّعة. يكمن سحر الفيلم في بساطة التزامه تلك اللعبة بين ما هو حقيقي وما يتم استحضاره، نسيج الذكريات التي لا تختفي أبداً.

«ماذا كنت تتخيل أنك ستفعل الآن عندما كان عمرك 11 عاماً؟» تسأل صوفي والدها وهي تصوّره بمجرد وصولهما إلى الفندق المتواضع على الشاطئ. بلغت صوفي للتوّ الحادية عشرة من عمرها، وهذه الرحلة مع والدها هي مقدمة لعودتها إلى المدرسة والروتين، وآخر لحظات الصيف والرقص والكاريوكي والغوص التي تشاركها مع والدها الذي لا تراه كثيراً. تتناوب المحادثات بينهما في المسبح مع مراسيم مرهم الوقاية من الشمس، وذكريات بعيدة عن الطفولة في إدنبره والأسئلة الإلزامية حول العمل المدرسي وإلى حد ما حول الحياة مع إيماءات الثقة والحماية بينهما. لكن بين الضحك والتواطؤ، تحيط بكولوم هالة بعيدة المنال عن صوفي، تحاول ولوجها عبر نظراته وصمتها، وتطفو في المكان كأنها حقيقة لا يمكن وصفها أو شرحها. تحتفظ كاميرا صوفي ببعض اللحظات المشتركة بينهما، صورها متّسخة ونابضة بالحياة، تظهر بريقها على التلفزيون الأنبوبي الصغير في الغرفة وشظايا كولوم في انعكاسه في المرآة. الغموض الذي يحيط بهذا الأب الودود، الحزين بعض الشيء، يشحن علاقتهما وعطلتهما، واستجوابها الدائم له هو كقطرة دم متخثّر في صورة، تغرق بها اليوم في غرفة معيشتها في الليل عندما كبرت، في جلسة استحضار ماضٍ ربما يكون هدية حب، كما تقول كلمات ديفيد بووي: «يطلب منك الحب أن تعتني بالناس على حافة الليل».
الرقة التي تكمن في «بعد الشمس» من وصف لحظات هشاشة كولوم والمراهقة المبكرة لصوفي خارجة عن المألوف. الحقيقة المتطرفة التي تغزو القصة من التسلسل الأول إلى الأخير، هي تشابك الذكريات والذاكرة التي يصعب تمييز حدودها. تشبه ذاكرة صوفي ومعها ذاكرة المخرجة تشارلوت ويلز، تلك الصور المعزولة المحفوظة في بولارويد، خلف زجاج متّسخ تضرب به الشمس في فترة ما بعد الظهيرة الحارة. تأخذ المخرجة الأسكتلندية في باكورتها، تلك الذاكرة وتصل إلى الحاضر مع شخصيتها للحفاظ على حبها لوالدها وغموضهما الدائم. «بعد الشمس» فيلم دقيق وبارع عن الذاكرة، وعبور الذكريات ومحاولة تهدئة الألم الناتج من الغياب. كما أنه مقدار الحقيقة المحاطة بالصور الصامتة وكل ما يبقى هو ذاكرة محكوم عليها بالتلاشي. «بعد الشمس» ثمين مخصّص لكل أولئك الذين يستحمون في الليل، ويرقصون حتى الفجر ويسألون أولادهم المغفرة ويخفون دموعهم. يتوافق الفيديو المصوَّر الذي يتداعى مع صورة الفيلم المكسورة واللاهثة لعناق ينبض مع أرواح مفقودة.
الجزء الأكبر من الفيلم سلسلة من المشاهد من تلك الإجازة، لم يتم تنظيمها كسرد واضح، لكن كأجزاء من الذاكرة، تفصلها تفاصيل ولحظات حسية بسيطة أو ذكريات ظلّت لسبب ما مميزة للفتاة. الأسلوب نفسه، لافت للغاية، يبدو متقلباً، في بعض الأحيان لا يكون الموضوع الرئيسي ما في الإطار نفسه، بل ما هو خارجه. يبدو كأن بعض المشاهد تلمح إلى أن شيئاً ما سيحدث، لكن لا شيء يحدث، وتتوقف اللحظة وتترك عواقب كبيرة. تم إنشاء الفيلم على أنه ذاكرة شخصية، تتم تصفيتها من خلال الذاكرة والخيال وحالة التوتر بينهما. بين الأحداث المسجلة والمتذكرة، تجذبنا ويلز بعمق إلى قصتها، ما يجعلنا نتفحص كل إطار كما لو أننا نبحث عن أدلة لحقيقة خَفية لا تزال بعيدة المنال. يحتوي الفيلم على شرح مفصل للعلاقة بين الحقيقة والصورة، فقط ما يمكن رؤيته بالعين هو حقيقي. الإطار والسرد يطمسان الحدود بين التوثيق والسرد، تماماً مثل قطعة موسيقية لا نزال نسمع تردداتها، ومثل الكتابة غير المقروءة التي لا تزال تترك حبراً على الورق. لا يوجد أكثر تعقيداً وأكثر استقراراً من علاقة الأب والابنة. علاقة تنبض بالحياة تدريجاً في الفيلم من دون فرض السرعة والسماح لها أن تأخذنا في متاهة الفيلم المذهلة. تملأ ذكريات صوفي الحقيقة والمتخيّلة الفراغات، وهي تحاول التوفيق بين الأب الذي تعرفه والرجل الذي لم تعرفه أبداً. تحاول أن تفهم معنى انفصال والديها والسلوك غير المنتظم لوالدها القادر على الانتقال في وقت قصير من نشوة الشباب إلى حالة يرثى لها من الكآبة. اللحظات التي تقضيها صوفي بمفردها، تتحدث بقوة عن النضج، ويصبح الفيلم نوعاً من أفلام البلوغ حيث تلتقي بالمراهقة التي تسلم نفسها لقبلتها الأولى وتقترب من الكحول وتترك الطفولة وراءها. تعبّر لحظات كولوم الفردية عن اكتئاب عميق وهو في أوائل ثلاثينياته. معاناة تظل مكبوتة وتختفي لا إرادياً في حضور صوفي. لا يشرح الفيلم أصل الحزن، ولا يحتاج إلى ذلك، لأن وظيفته فقط إظهار الديناميكية بين الأب الذي يعاني بصمت والطفلة التي لا تفهمها. هناك شيء آخر يختبئ خلف ابتسامة كولوم، فهو ليس حاضراً في الروح. إنه يتجول، نشعر بالكرب في روح الرجل على الرغم من أننا لا نعرف أسبابه، لأنّ حقيقة «بعد الشمس» هو أنه ليس فيلماً عن كولوم، ولكن عن صوفي التي لا تستطيع إلى أن تحب والدها وتنظر إليه كأنه إله إغريقي، وأن ما حدث له لا يبدو منطقياً إلا عند رجوعها عندما كبرت إلى الماضي بالنظر مرة أخرى إلى تلك اللحظات التي صوّرتها. غالباً ما يكون هناك رابط قوي بين الآباء والبنات، لكنّ هناك أيضاً إحراجاً يجعل من المستحيل التحدث عن المشاعر. مع ذلك، فإن ذكريات صوفي مليئة بالشوق لعناق والدها.
ينتمي الفيلم إلى فئة المعجزات الصغيرة


يبني «بعد الشمس» حبكته من ذكريات المخرجة نفسها. في نفس عمر بطلتها، قامت أيضاً برحلة إلى تركيا مع والدها. ليس الفيلم سرداً للسيرة الذاتية، على الأقل ليس بالمعنى التقليدي، لكنه تأمّل عاطفي يستخدم تذكر تجارب الطفولة القوية لمنحها تفسيراً أعمق وأكثر وضوحاً في مرحلة البلوغ. تتجنب ويلز المألوف والرضا عن النفس والديماغوجية لتحقيق شيء خاص حقاً، مع درجة من الحميمية والحنان والبراعة التي تجعل فيلمها الروائي الأول إحدى المفاجآت والاكتشافات لعام 2022. ذلك الجو الغامض من الاستمتاع والحزن الذي تلتقطه ويلز في صورة دقيقة ومؤلمة وآمنة ومراوغة، يضعها بحق بين أكثر المؤلفين إثارة للاهتمام بالسينما المعاصرة.
«بعد الشمس» عودة إلى الماضي مصمّم بعناية فائقة. إذا كان الفيلم سعيداً أو عاطفياً أو حزيناً أو كئيباً للغاية، فذلك لأنه يتحدث بصدق عن كل ما يقوله. يتسلل إلينا بوقار وببطء وبدون أي تمهيد يستقر داخلنا. يذرف دموعنا التي لا يطلبها، بإجلال وبدون زخرفة. إنه لأمر مدهش مدى قوة هذه الدراما، وقوة المخرجة والممثلين الذين أوضحوا أن الذاكرة هي مساحة يجب العمل عليها باستمرار والعبث بها من أجل الحفاظ عليها. «بعد الشمس» وليمة للعيون، يغلّفه حب غير مشروط، بين أب وابنته لا يريدان الحد من عواطفهما، حتى عندما يكونان على منحدر خطير. ينتمي الفيلم إلى فئة المعجزات الصغيرة، والظهور الأول لتشارلوت ويلز هو جوهرة الاهتمام بالتفاصيل. صدمتنا ويلز ببراعة عملها الدقيق، برقصتها البطيئة عن الحياة وخاتمة مفجعة على أنغام فريدي ميركوري وديفيد بوي وأجساد أبطالها تترنح في وئام مليء بالحميمية، وحنين أب إلى الماضي وتعلق ابنة بحاضر أشرطتها المصورة. هكذا، تحت السطح المضيء لفيلم صيفي خفيف، يظهر أحد أكثر أفلام الموسم تدميراً.