في المشهد الأول من «ضوضاء بيضاء»، يشرح أستاذ الأيقونات الحية في الجامعة موراي سيسكايند (دون تشيدل) بأنّ طبيعة السينما الأميركية مشبّعة بالتقدم والحضارة وما بعد الحداثة، طالباً من تلامذته النظر إلى ما وراء العنف. «حوادث السيارات في الأفلام الأميركية جزء من تقليد طويل من التفاؤل الأميركي، وإعادة تأكيد للقيم التقليدية. إنّها مثل عيد الشكر» يستفيض موراي، بينما تعرض الشاشة خلفه مجموعة مختارة من أفضل وأشهر الحوادث والانفجارات الهوليووديّة. هذا كافٍ للمخرج الأميركي نواه بومباك لينير لنا الطريق الذي سيسلكه في فيلمه الـ 13، المبني على رواية بالعنوان نفسه للروائي الأميركي دون ديليلو. لإضفاء الشرعية على الفرضية، بعد نحو 45 دقيقة من بداية الفيلم، سيُضيف بومباك إلى تلك القائمة الواسعة من الانفجارات، حادثةً جديدةً عندما تصطدم حافلة بقطار، ما يؤدي إلى انتشار سحابة سموم في الهواء، تثير دهشة وخوف سكان بلدة بلاكسميث الصغيرة، خصوصاً جاك غلادني (آدم درايفر) زميل موراي المتخصّص في الدراسات التاريخية حول شخصية وعلوم أدولف هتلر، وزوجته بابيت غلادني (غريتا غيرويغ) التي تنسى كثيراً بسبب تناولها عقاراً غامضاً، وعائلتهما الكبيرة.

من هنا، يقدّم بومباك وجهة نظر لامركزية وشخصية، في عمل متعدد المستويات، حيث السينما، وخصوصاً نوعها الأدبي، وسيط لإعادة تفسير مواضيع وهواجس الروائي الأميركي. بفيلم مقسم إلى ثلاثة فصول، يقدم بومباك جاك وزوجته وأبناءهما في إطارهم التاريخي، وتحديداً حقبة الثمانينيات، بعد أزمة النفط وولادة وعي بيئي عالمي لا يزال في مهده. وإذا كان السياق ـــ كما هو واضح ـــ نموذجياً لفيلم «كارثة»، فإن بومباك يستعمل هذه الكارثة ليقدم فيلماً بنغمة ساخرة، فكاهية تارة، ودرامية طوراً، وأحياناً موسيقية. يحبس النزاعات والأزمات العائلية داخل جدران البيوت، بينما يشير كل ما في الخارج إلى المشكلات الاجتماعية للبلاد، حيث بدأ إرهاق التواصل في منتصف الثمانينيات يترسخ داخل العائلات الأميركية، في مجتمع مثقل بوسائل الإعلام. لذلك، ما يبرز هنا تشابه الموضوع التي قدمه الأستاذ موراي في أول الفيلم، ومنه ينتقل بومباك إلى إظهار الافتراض الأولي من خلال مغامرات العائلة خلال الكارثة، وطبيعة المجتمع الأميركي المتفائل الذي ينعكس على السينما حيث الأبطال ينهضون من تحت الرمال، لكن الموت هو الذي يُخشى منه بشدة. بالقلق الجارف للروح البشرية، سيقود بومباك هذه العائلة في دراما ذات إيحاءات مروعة، حيث سيحدد الخوف من الموت الطريق إلى حدّ بعيد. وإذا كان الموضوع الرئيسي هو الموت، فإن الوسائل الدرامية والفكاهية التي يستعملها بومباك متنوعة، بفضل الاهتمام المعتاد الذي يكرّسه لصياغة سيناريواته الخاصة. جاك، أداة لالتقاط النغمات الاجتماعية المحيطة، والأصوات المنتشرة والمتنافرة للثقافة الشعبية، وإهدار المعلومات، والكلمات الخارجة من سياقها، والإعلانات المنبعثة من مكبّرات الصوت في مراكز التسوق وأجهزة الراديو والتلفزيون والمواعظ التي يقدّمها الإعلاميّون. فيلم بومباك يستعمل هذه اللغة ويدفع بسينماه وسحرها إلى مكان أبعد بكثير من كل ما يقال، ليواجهنا بحقيقة أنّه كلما زادت الثقافة في إنتاج أشياء عديمة الفائدة، زاد إنتاجها الاستهلاكي لما هو غير ضروري، وكلّما زادت الخطابات، أُفرغت من المعنى، وكل شيء يتغذّى على الكليشيهات التي تنتج نفايات مجتمعية سامة.
حياة جاك وبابيت وأطفالهما الأربعة من زيجات سابقة روتينية، تتخلّلها جلسات تلفزيونية، مقارنات بين الأب والابن، أحاديث منطقية أو غير معقولة حول هذا الخبر أو ذاك، وزيارات طقسية إلى السوبرماركت، حيث ينغمس الجميع في الاستهلاك المحموم للأشياء والبضائع والمنتجات والضوضاء. لكن الموت مخيف، أو بالأحرى، التفكير فيه طوال الوقت هو الذي يرهق أبطال بومباك. هناك طريقتان للنجاة منه، هو أن تصبح أيقونة، أو الاستهلاك أي الطريقة التي يساعدنا بها الاقتصاد الاستهلاكي على نسيان الموت. قدم مخرج «قصة زواج» (2019)، صورة لعائلة أميركية حديثة خضعت لتحليله من خلال رؤيته الحادة والساخرة والمؤلمة في بعض الأحيان لأدب ما بعد الحداثة، الذي تمكّن سيناريو فيلمه من التقاطه بإيقاع فكاهي يائس. «ضوضاء بيضاء» عالم يسوده عدم اليقين، وهو نفسه الذي يستهلكنا جميعاً ويجعلنا نعيش مع تلك الضوضاء البيضاء في الخلفية القادرة على تخديرنا وإلهائنا عن أعظم مخاوف الجميع: الموت. ثلاثة فصول وثلاث خطوات إلى الأمام على طريق سرد طموح وبناء موضوعي. بومباك، لا يتراجع من حيث الأفكار والتفاني في القصة، فهو يبني حوارات بإيقاع فريد، مثل اللحن الذي يبقى في الرأس. فيلمه مليء بالأفكار، تكفي لبناء ثلاثة أفلام بدلاً من واحد فقط.


مواضيع لا نهاية لها نجدها أمامنا، من الحياة اليومية للعائلة، والعلاقات الشخصية، والحياة والموت، والحب والأزمات الشخصية، وقوارير الأدوية، وغرف النزل والمنزل، والراهبات اللواتي لا يؤمنّ بالجنة، وإلفيس وهلتر ووالدتيهما. يعالج موضوعات خالدة وعالمية مثل الدين، الحرب، الأخلاق، الأسرة (مهد التضليل العالمي) والهستيريا الجماعية. ومنها يعرج على النزعة الاستهلاكية والمعلومات المضللة والإنكار التي ترتبط ارتباطاً مباشراً بالكارثة التي حلّت في الفيلم وفي مرحلة ما بعد جائحة كورونا في الواقع، وتدمير البيئة وأزمة الطاقة...
«ضوضاء بيضاء» يركز على ما كانت (وما زالت) عليه الثقافة الأميركية في فترة ما بعد الحرب إلى اليوم، ولكنه أيضاً قادر على تجاوز الزمان والمكان، على الغمز للجمهور وإمتاعه بينما يخبره بأشياء عميقة. ننظر إلى الماضي وإلى الثمانينيات لإخبار الديناميكيات الصالحة أيضاً اليوم في أعقاب حالة الطوارئ الصحية. خلال إنشائه هذا العمق للفكرة، لا ينسى بومباك أصوله، ما يضمن للفيلم هذا الإيقاع المميز وتلك السخرية المغناطيسية، فيسعدنا مرة أخرى بأناقته النادرة. بفضل ذلك نجد أنفسنا أمام فيلم متوازن.
فيلمه ساخر وفكاهي مقتبس عن رواية للكاتب المعروف دون ديليلو

ولكن هذا الإفراط في المواضيع وأحياناً المصداقية الصارمة لكل فكرة، يشعراننا بأنّ الفيلم جوهرة أدبية أكثر منه سينمائية. وهذا يقود المتلقّي إلى مشاهدة الفيلم تقريباً باتباع طريقة التفكير في العمل. هذا لا يزيل ذكاء ما نراه، لكنه يبعدنا قليلاً عن السحر السينمائي ويحولنا إلى محليين أكثر من متفرجين. يساعد على هذا، هيكل الفيلم الفوضوي المتباطئ، الخامل والمرعب والمضحك الذي يتألق كمحاكاة ساخرة لصورة العالم الأكاديمي.
إذا أردنا تحليل نظم السرد الأساسية، يمكننا القول إن السؤال الذي طرحه «ضوضاء بيضاء» وقبل أي شيء الجواب الذي قدمه بومباك، قد يكونان تافهان تقريباً. مع ذلك، عندما يتم تفكيك العديد من المحفّزات الفكرية للمشاهد بشكل نقدي، يتم فهم التعقيد اللطيف لهذا الفيلم المسلّي الذي يخفي قيمته السينمائية في مشاهده النهائية. نحن أمام فيلم قادر على السخرية من نفسه، من دون أن يخفي انتقاده الحاد والقاسي للمجتمع. يلمح بومباك ومن ورائه ديليلو، إلى أنّ الخوف من الموت يشكّل المجتمع، حيث كل فرد يبحث عن طريقته الخاصة لتهدئة قلقه سواء من خلال العقاقير أو تراكم المعلومات ونشرها أو من خلال استهلاك أي شيء طوال الوقت. وكل هذا ملفوف في تلك «البراءة الأميركية» التي تحاول إيجاد نهاية سعيدة لكل شيء، ولو كان علينا أن نخترعها.

* White Noise على نتفليكس