لويس بايارد روائي أميركيّ معاصر ذو مزاج خاص، تميّز بتوظيفه الذكيّ للشخصيات التاريخيّة المشهورة (حقيقيّة ومتخيّلة)، والأماكن المعروفة لتدعيم الحكايات التي يسردها في رواياته، إلى درجة أنّها تثير دوماً شكوك القارئ بوجود خدعة من نوع ما ورائها. «العين الزرقاء الشاحبة» (2003) التي يقدّمها سكوت كوبر فيلماً بالعنوان نفسه على نتفليكس، هي روايته الأكثر مبيعاً. هنا يستدعي شخصيّة الشاعر الأميركيّ المعروف إدغار آلان بو، كما المحقق (الخيالي) الشهير أوغسطس لاندور، لتتبع وقائع سلسلة جرائم غامضة تتعاقب في أجواء «كليّة ويست بوينت» العسكريّة الأميركيّة قريباً من بداياتها في القرن التاسع عشر في «هيدسون فالي»، بالقرب من نيويورك، بمزاجها القاتم، وتضاريسها الوعرة.

المؤسسة الوليدة آنذاك تفقد ليروي فراي، أحد تلاميذها المجندين الذي عثر عليه مشنوقاً، ثم استقطع قلبه من جسده بدقّة جراحيّة لافتة بعدما نقلت جثته إلى مستشفى الكلية. ولخشية الضباط الكبار (سايمون ماكبورني في دور الكابتن هيتشكوك، وتيموثي سبال في دور العقيد سيلفانوس ثاير) من تلوث سمعة مؤسّستهم، فإنّهم يستعينون بمحقق مدنيّ متقاعد وكئيب، كانت له سمعة مهنيّة عالية للكشف عن غموض الجريمة. يتحمّلون لأجل ذلك وقاحته وعجرفته الزائدة، حتى انتقاداته لمهمّة «ويست بوينت» الأساسيّة. يؤدي كريستيان بيل، الذي عرفناه في دور باتمان (الرجل الوطواط) ضمن ثلاثية «دارك نايت» (فارس الظلام) لكريستوفر نولان، ويعدّ شريك المخرج كوبر المفضّل في أربعة أفلام إلى الآن، دور المحقق أوغسطس لاندور، ملتحياً هذه المرّة كأرمل متنسّك يأكل الحزن روحه، ويعتصره القهر على اختفاء ابنته الوحيدة.
يقبل لاندور المهمّة ويشرع في تحقيقاته، لكنّه يجد صعوبة في الوصول إلى فضاء جمهور التلاميذ المجندين، فيستعين بأقلّهم شأناً، ممن لفت انتباهه إلى سرعة بديهيته، وشخصيته الحالمة، وموهبته الشعريّة وأوهامه الغريبة، أي إدغار آلان بو (لعب دوره هاري ميلينغ بتألق). وللحقيقة، فإن إدغار آلان بو، الشخصيّة التاريخية، التحق بالفعل بـ «الويست بوينت» وإن لفترة وجيزة. يدفعنا بايارد هنا للتّوهم اللذيذ بأن حوادث القتل الغريبة في الأكاديمية الأشهر قد تكون سرّ إلهام أعمال بو الأدبيّة السوداويّة اللاحقة.
يلعب بو مع لاندور دور واطسن مع شريكه الشهير شرلوك هولمز، يجمعهما تهميش الآخرين والسعي إلى البحث في ما وراء الظاهر، فيساعده على استخلاص الاستنتاجات من أطراف الأدلة التي يُعثر عليها، لا سيّما قصاصة الورق التي وجدت داخل يد الجنديّ المشنوق. لكنّ تصرفاته الغريبة تثير الشكوك من حوله، وحساسيته مقابل عدوانية رفاقه في الأكاديميّة تجعله هدفاً سهلاً، ما يضطر لاندور للتدخل ومساعدته أكثر من مرّة.


ليس بو إلا واحداً من مجموعة أشخاص غريبي الأطوار يصادفهم المحقق لاندور خلال تحقيقاته، بدايةً بكبار ضباط «ويست بوينت»، وصولاً إلى عائلة الطبيب العسكري دانيال ماركيز (يلعب دوره توبي جونز) البورجوازية، المؤلفة من زوجته جوليا (غيليان أندرسون) وابنه أرتيموس (هاري لاوتي)، وابنتهما الجميلة والغامضة ليا (لوسي بوينتون) التي تصبح محور عواطف بو، كما كل مجندي الأكاديميّة بالطبع (يقرأ لها بو القصائد، ومنها مقطع عن «العين الزرقاء الشاحبة» التي تصبح عنوان الرواية والفيلم) مروراً ببروفيسور السحر والتنجيم (روبرت دوفال). كلّهم مدّعو قوّة لكن دواخلهم مكسورة، يقولون نصف الحقيقة، ويخفون عمداً نصفها الثاني، ويعيشون في المناطق الرماديّة بين العلم والخرافة، والمعرفة والجهل، والخير والشرّ. بسبب قلب الضحيّة المنزوع، تتجه تحقيقات لاندور نحو مساحة الطقوس الشيطانيّة والسحر الأسود. يعثر فعلياً على إشارات تالية ومنزل مهجور فيه تلميحات إلى شيء من ذلك. يمده صديقه خبير السحر والتنجيم بنصوص من كتب قديمة تفسّر طبيعة تلك الطقوس، لكن دائماً من دون القدرة على ربطها بشخص محدد. تتعقّد الأمور مع قيادة الأكاديميّة بعد أن يعثر على جثة بالينجر، وهو مجند ثان رفيق للقتيل الأوّل، وقد شُنق واستؤصل قلبه وعضوه التناسليّ، بينما اختفى ستودارد رفيق القتيلين من دون أن يترك أثراً، حتى إنّ ملابسه الشخصيّة لم تكن في غرفته في الأكاديمية.
سلسلة الجرائم تتطور تالياً نحو مصادفات سخيفة إلى حد ما. تتناثر الحكاية في الثلث الأخير من يد القارئ/ المشاهد الذي يفقد الإحساس بواقعيّة الأحداث، ويشرع في تقبّلها كمجرّد قطعة مسلية من عمل خياليّ محض، قبل أن تنعطف القصّة بعد الحل المفترض للجرائم نحو اتجاه مغاير تماماً.
شخصيات تعيش في المناطق الرماديّة بين العلم والخرافة، الخير والشرّ


لا يطرح «العين الزرقاء الشاحبة» أيّ قضيّة مركزيّة سوى ذلك التداخل الغرائبي في قلوب البشر بين ألوان الخير والشر، وتقلب أدوارهم المعاشة تناقضاً بين مطلق الأبيض وعتامة الأسود. وهو يفعل ذلك بتعسّف ومبالغة دراميّة أحياناً تكاد تحوّله إلى كاريكاتور مسطّح، بينما يخسر فرصة الإفادة من السياق التاريخي الاجتماعي لمرحلة تأسيس «ويست بوينت» مثلاً، أو بشائر انتصار العلم على الخرافات توازياً مع صعود الرأسماليّة، أو حتى استكشاف موضوع تعلّق النخب الأميركيّة المرضي بالجمعيّات السريّة والرّموز العقائديّة. ومع ذلك، فإن كوبر، ومع محدوديّة الثّيمة الكليّة لرواية بايارد، قدّم من جهته، مع فريقه الدائم المفضّل الممثل بيل والسينماتوغراف الياباني ماسانوبو تاكاياناغي، مشروعاً بصريّاً مذهلاً مرسوماً هذه المرّة بتدرجات اللون الرمادي، وقد تخللتها ومضات من الزرقة الطاغية: زرقة المسطحات المائيّة، وألوان الأزياء الكلاسيكيّة لطلاب أكاديمية «ويست بوينت»، مزيناً مشاهده بتفاصيل لا تنضب من الثلوج والكتب العتيقة، والغابات الكثيفة، والغربان الناعقة، والقصائد الخلابة، وضحكات الرّفاق التي تدفئ برد الشتاء. ويبدو أن هذا المناخ البصريّ القوطيّ جاء في توقيت مناسب خلال منتصف الشتاء الكئيب في العالم الغربيّ، فقفز بالفيلم إلى مرتبة الأكثر مشاهدة على نتفليكس خلال أيّام.
بغير الشخصيّة المركزيّة للمحقق لاندور، تراوحت أدوار شخصيّات الفيلم بين منافسة لاندور نفسه كما في دور بو ، وانعدام التأثير تقريباً كما في دور باتسي (شارلوت غينسبورغ) عاملة البار ورفيقة فراش لاندور، وهو أمر كان مفيداً في تخفيف حدّة الـتأزيم في السرد المرتبط بشخصيّات عديدة معقّدة سايكولوجيّاً تتقاطع مساراتها سويّة بلا رحمة. البريطانيّة غيليان أندرسون منحت بخبرتها دور جوليا (السيدة ماركيز) الأخرق شيئاً من الطعم رغم المكياج المسرف وردود الأفعال المبالغ بها. على أن شخصيّة بو تحديداً انتهت في موقع واعد للغاية، ومن المؤسف حقاً أن بايارد لم يكتب نصّاً آخر ليأخذ بقصّته إلى مستوى مغاير.

* The Pale Blue Eye على نتفليكس