مشاهدة «باردو: توثيق مزيّف لحفنة حقائق»، الذي يُشير عنوانه إلى هذا الفضاء الذي يتم إنشاؤه بين خيال الحدث والحدث نفسه، يعني الانغماس في تيار جارف متغيّر من اللاوعي حيث الوقت مائع، لا يكترث للماضي أو الحاضر أو المستقبل، كما لا يأبه من أين يبدأ أو أين ينتهي. «باردو» من الأفلام التي تريد من المشاهد أن يرافق المخرج ليضيع في هذه الضخامة السينمائية من الأحلام والتأملات واستكشاف مأزق الحياة، ليس بطريقة عقلانية بل عاطفية. الشريط حالة ذهنية، تماماً مثل الحياة، يهدف، بمعنى ما، إلى جعل الأفكار ملموسة وحقيقية، لأنها الشيء الوحيد القادر على النجاة من الموت، كما يقول مخرجه أليخاندرو غونزاليس إيناريتو. فيلمه السابع، لا معنى ملموساً له.

هو يجد معناه في هذا التجوال بين الشكوك ومخاوف العقل البشري، يسافر بحرية وغير مقيد بأي شعور ملموس. يتحول الفيلم باستمرار كما لو كان بحد ذاته حلماً، عنصراً مرناً، مجموعة من الذكريات والأحلام والرغبات، أدركت أو لم تدرك طريقها. يبدو، في بعض الأحيان، مزعجاً، سطحياً، غير محسوب بعمق ولكنه قوي بلا شك. قد يكون مربكاً، ولكنه في الوقت عينه يشرح نفسه. هو سيرة ذاتية مليئة بالأكاذيب البيضاء، تخريب ذاكرة، قصة هذيان رجل يتذكر بلداً لم يعد موجوداً. «باردو» متفاوت للغاية، وغير ناجح، قاس وخطير وممل، يحتوي على سيرة المخرج الزائفة. فيلم يُحب ويُكره بالقدر نفسه، لديه الكثير ليقوله ويعرضه، ومع ذلك سيكون رقيقاً جداً ومنتفخاً للغاية. مفرط في كل شيء، يتم فيه محو الحدود بين الخيال والواقع مراراً وتكراراً.
«باردو» ليس رحلة حنين بسيطة إلى عالم إيناريتو الداخلي الحميم، بل يعكس فيه المخرج مجموعة حقائق وتأملات ذاتية، بينما يصنع سجلاً زائفاً لذاكرته الثقافية والشخصية. يصرّح إيناريتو بكل شيء، يكشف إيمانه بأن الحياة ليست سوى طي النسيان، وأن الواقع هو مجرد ذكرى زائفة يتلاعب بها خيال المرء. وهكذا، يصبح كل شيء خاطئاً ولكنه حقيقي في عقولنا. هذه الـextravaganza الفيللينية، المعطوفة على جموح سورنتينو الإيطالي، وصلت إلى المكسيك، وجاء دور إيناريتو ليصنعها، لكنه ضاع بها ومعها بفيلم طنان، مبهر في بعض الأحيان، لا يصل إلى طموحه ومشكلته الكبيرة هي حقيقة ربط تفسيرات متعددة في الوقت نفسه. يرغب إيناريتو في «باردو» بالتعرّف إلى نفسه، ويطلب أيضاً أن يتعرف إليه الآخرون ويدعمونه ويفهمونه ويسامحونه في كل شيء حتى عندما ينتقد نفسه. أمر ينتهي بتحويل الفيلم إلى شبكة لا نهائية من المراجع الذاتية والغرور الذي يمكن ألا يكون في مكانه. من المقرر أن يصبح صانع الأفلام الوثائقية المكسيكي سيلفيريو غاما (دانيال غيمينيز غاتشو) المقيم في لوس أنجليس، أول أميركي لاتيني يحصل على جائزة صحافية مرموقة. هو الذي قضى أكثر من عقدين في الولايات المتحدة وأصبح رمزاً للصحافة المكسيكية خارج حدودها. ومع ذلك، ليس كل شيء سهلاً لهذه الشخصية التي تنتقل من مكان إلى آخر، في خضم أزمة ضمير، بخاصة عندما يعود إلى المكسيك لتقديم عرض لفيلمه الجديد، ما يعني أنه يجب مواجهة ماضيه. سيلفيريو، رجل في ارتياب تام بسبب وضعه كمهاجر (هو ليس هنا ولا هناك)، هاجمته متلازمة المحتال التي تمنعه من الاستمتاع بالنجاح، هو الأنا المتغيرة لإيناريتو. يبدأ البحث عن معنى لوجوده، حيث يتعين عليه أن يتصالح مع ماضيه ويصبح على دراية بهويته، ولكنّ الواقع من حوله يواصل الانهيار ويصبح الحلم والخيال والحقيقة غير واضحة. يشرع سيلفيريو في رحلة مصيرية، من دون أن يعرف إلى أين ستقوده، تشمل تاريخ المكسيك ووسائل الإعلام والفن والأسرة والأصدقاء والعمل وطبعاً الموت. يحول إيناريتو هذه الفرضية، ليس فقط إلى انعكاس شخصي وحميم، لكن إلى رحلة بدون وجهة واضحة مع مجموعة من الشظايا تذهب في كل الاتجاهات. شيئاً فشيئاً تلتقي لتطلق العنان لاعتراف بالآلام الخاصة والجماعية. يروي إيناريتو قصته، ولكن أيضاً ما يتخيله عنها، ما يريد منها، ما يتحلل منها ومن ذاكرته. أحد أعظم مشاهد الفيلم، يتمثل في غرق سيلفيريو في مكسيكو سيتي كما لو كان يسبح بها، يتذكرها ويعيد بناء ذاكرتها، هذا المخرج الوثائقي الذي يستحضر البلد الذي ولد فيه، يأخذ لحظة من إعادة البناء المعقد للماضي، ليس فقط من أجل المعاناة بل لفهم قيمة الهوية كجزء من شيء أكثر تعقيداً. ويفعل إيناريتو الشيء نفسه لذلك. «باردو» تجربة محفوفة بالمخاطر، سواء بالطريقة التي قدمها بها المخرج أو بمعنى احتضان حياته كسلسلة من القطع المتفرقة، كتطبيق عملي بدائي للذاكرة. لذلك يعتبر الفيلم تجربة بارعة تفقد صلابتها في كثير من النقاط.


صنع العديد من المخرجين أفلاماً مثل هذه، ليس فقط فيلليني وبيرغمان وسورنتينو، لكن أيضاً بوب فوس ومرات عديدة وودي آلن وآخرون بأساليب متنوعة. لذلك كوننا أمام مخرج طموح مثل إيناريتو، هذا النوع من الأفلام هو مقامرة يُحتمل فيها الوقوع في الإفراط والادعاء والسخرية، وهذا لا بأس به إذا عرف المخرج كيف يعود ويمسك بأطراف فيلمه لكيلا يضيع، وهذا ما لم يفعله المكسيكي. هناك أوقات كان يمكن فيها للفيلم أن ينتهي بدون مشكلات، ولكن طوله المفرط (نحو ثلاث ساعات) خلق الكثير من الأبواب الذي دخل فيها الفيلم وخرج منها، تساءل عنها، شك بها، سقط فيها، أخطأها وضاع وعاد للبحث عن باب ومخرجٍ ثانٍ. يتكون الفيلم من مجموعة متنوعة من اللقطات التي يتم تجميعها معاً لتشكيل فسيفساء، ولكن لا تنتج عنها صورة واضحة. الفيلم طموح، طموح المخرج الذي يريد كل شيء ويفهم بكل شيء، يحدد تاريخ المكسيك بأكمله قبل وصول الإسبان حتى الاستعمار الأميركي. يفسر معنى الحياة والموت والأبوة والسينما مروراً بإدانة الفقر والعنف وكوارث الهجرة وآلام الشهرة. يقدم الفيلم نظرة عامة على الأمة المكسيكية، في أوقات وبطرق مختلفة. يتطرق الفيلم إلى حرب 1846 – 1848 مع الولايات المتحدة، والغزو الإسباني والإبادة الجماعية للسكان الأصليين، تهريب المخدرات والطبقية. يروي «باردو» الحياة من خلال الموت، ويصوّر انعدام الأمن لدى الإنسان، إحساسه المستمر بالنقص، شعوره الكاثوليكي بالذنب، علاقته بوالديه وكذلك بالنجاح. يجرؤ على التفكير في قضايا مثل النجاح، حيث يتم تصويره على أنه خيبة أمل وواحة صغيرة وسط مجتمع استهلاكي. يقدم الفكاهة والاستهزاء بالنفس كدواء للألم، الموت هو الحقيقة الوحيدة المؤكدة، الخوف والذنب كخبز يومي في حياة الإنسان. لذلك ينتهي الأمر بالفيلم مثقلاً بالمواضيع والهموم وبإيناريتو نفسه الذي يحتاج إظهار عبقريته في كل لقطة، في كل حركة كاميرا منمقة، في كل حوار، في كل وميض عاطفي. الفيلم الذي يصرخ بالحرية، ينتهي به المطاف مسجوناً في الانغماس الذاتي الذي يفرضه عليه خالقه.
يلف إيناريتو كل هذه المفاهيم المجردة بمهاراته الفنية السينمائية المعتادة. لقد تفوق مصمم الإنتاج أوجينيو كاباليرو على نفسه حقاً، وكاميرا داريوس خوندجي هي رقصة حرة وسائلة، مراقبة دائمة للأحداث، تسبب جنباً إلى جنب مع العدسات المستخدمة تشوهاً تماماً كالأحلام التي هي مفاتيح الحقيقة والوهم، ينتج عنها تعايش الإضاءة والمناظر في صور مذهلة عالية الجودة. فيلم مليء بالموسيقى الرائعة وتصميم الصوت (نيكولا بيكير)، نادراً ما تم استخدام أغنية Let’s Dance لديفيد بوي بشكل أكثر إثارة للإعجاب. العيب الفني الوحيد هو عمل الـCGI، الذي هو ضعيف جداً في بعض الأحيان، خاصة في مشهد الطفل الذي يخرج من الرحم، ومشهد رأس سيلفيريو البالغ الذي يوضع على جسم طفل، الذي هو مزعج في أحسن الأحوال ومخيف في أسوأ الأحوال. مع ذلك، لا يمكن لأحد أن ينكر أنّ إيناريتو صاحب رؤية. على الرغم من الإفراط في استخدام هذه الكلمة في الفيلم، لا يمكن أن تكون أكثر ملاءمة هنا. «باردو» مبدع بصرياً وصوتياً بلا رحمة، يتدفق إبداعاً لا مثيل له من إيناريتو، وإن كان لا يصيب الهدف أحياناً، لكن لا يسعنا إلا الإعجاب بالبناء العام للفيلم.
يقدم الفيلم نظرة عامة على المكسيك في حقبات تاريخية مختلفة

لا يقين في الفيلم بأكمله، هو لا يقترح أبداً خيطاً مشتركاً واضحاً، لأنه إشارة إلى الأحلام والفانتازيا، تلك التي يصعب علينا عدّها وتوحيد أجزائها. لكن بسبب طول مدة الفيلم، ينتهي الأمر بالعديد من هذه العناصر المجازية بالعودة للحصول على تفسيرات والتفاعل من جديد مع بعضها. هذا الأمر يمكن أن يكون إيجابياً وله فائدة كبيرة، لكنه في الفيلم نتجت عنه سوريالية واقعية سحرية مفككة وبسيطة. مع هذا التكرار، نجد أن سيلفيريو شخصية غير موصوفة إلى حد ما، لم نعرفه تماماً وهذه مشكلة لأننا سنمضي ما يقرب من ثلاث ساعات في معالجة علاقاته الشخصية، شكوكه ومعاناته الوجودية. للمرة الأولى، نرى مخرج «بيردمان» (2014) و«أموريس بيروس» (2000) غير آمن، خائفاً إلى حدٍّ ما وقلقاً بشأن ما سيقولونه ضده. لذلك قبل أن نصل إلى منتصف الفيلم، نجد أنفسنا أمام مشهد يتجادل فيه بطل الفيلم مع صديق قديم هو الآن مقدم تلفزيوني ناجح. هذا الحوار مهم للغاية، لأنه يقول تقريباً إنّ كل شيء سيء في الفيلم حتى تلك اللحظة. تكريس مشهد لانتقاد الفيلم الذي نشاهده، هو عرض غريب يدلّ على انعدام الأمن عند مخرج أقل ما قيل عنه بأنه عظيم. هناك الكثير من اللغط في «باردو» حول لا شيء، لكنه عمل محترم ولو أنه رحلة غرور مليئة بالتناقضات من قبل مخرج حقق كل شيء ومع ذلك لا يعرف حقاً ما يريده. «باردو» رحلة نرجسية أكثر من كونه فيلماً يسأل فيه المخرج نفسه بشكل أساسي أو على الأقل يشكك في بعض استنتاجاته. هو ليس مثالياً بأي حال من الأحوال، وفي أسوأ أحواله يمكن أن يكون مغروراً مبالغاً فيه وحتى طناناً. ولكن يمكن للفيلم في النهاية أن يقدم تجربة مرضية، ولو كنت تشعر في الرغبة في شد حنجرة المخرج في بعض الأحيان. في «باردو»، يتألق إيناريتو، ويتعب كثيراً ويؤكد أسلوبه الشخصي ويتدين الكثير من فيلليني. فيلمه عشوائي، خلق فوضى جميلة تعد واحدة من أكثر أعماله غير الناضجة، وربما لهذا السبب بالذات يمكن أن يكون أحد أكثر أعماله التي لا تُنسى.

* Bardo, False Chronicle of a Handful of Truths على نتفليكس