مخلصاً لأسلوبه الراقي الذي يخرج من أحلك زوايا الحكايات الخيالية، استحوذ غييرمو ديل تورو بصحبة مارك غوستافسون، على القصة الأسطورية التي كتبها كارلو كولودي عام 1883 حول الصبي المنحوت من الخشب، لتُصبح خاصته. رواها بتقنية إيقاف الحركة (Stop motion) وقدمها بطريقة ساحرة وجذابة بقدر ما هي داكنة وأحياناً شريرة. «بينوكيو» من يد وعقل ديل تورو، مختلف تماماً عن الأفلام العائلية النموذجية. القصة المليئة بموسيقى وأغنيات الحائز أوسكار ألكسندر ديبلات، لا تبتعد عن الظلام والحزن، لكن بقوة موازية تحتوي أيضاً على الكثير من اللحظات الخفيفة والمبهجة. نجح ديل تورو في تحويل قصة رويت آلاف المرات إلى قصة جديدة ومبدعة ومدهشة ورائعة. خطف ديل تورو «بينوكيو» وقدمه بشخصيته البصرية والروائية، والنتيجة فيلم متطرّف، متحد، مظلم، وحشي، مأساوي، متمرد بطبيعته وعلى علاقة كبيرة بالموت والسياسة. نعرف أن الصبي الخشبي الذي نحته غيبيتو العجوز والذي تم إحياؤه بأعجوبة، تعلّم معنى أن تكون إنساناً في رحلة مليئة بالمغامرة. لكن مع ديل تورو، تعلم أكثر من ذلك، إذ عرّج به المكسيكي إلى معنى الموت والحرب والفاشية وأيضاً معنى الحب والصداقة. بين الحكاية الخيالية والرواية الخارقة للطبيعة، يقع فيلم «بينوكيو» الذي لا يصل إلى مستوى إنجازات المخرج في «متاهة بان» (2006) و«شكل الماء» (2018)، إلا أنّ في «بينوكيو» قوة صورة لا يمكن إنكارها، ومثل بطلها يظل الفيلم مخلوقاً صغيراً وغريباً يستحق كل الحب والافتتان.
تحتوي قصة ديل تورو على كل ما نعرفه عن الرواية الأساسية، وطبعاً الفيلم الأول عنه الذي قدمته «ديزني» عام 1940، من شخصيات رئيسية وتطورات درامية وحوادث، ولكن مع بعض الإضافات التي تضفي مظهراً جديداً مقارنة بالعدد الهائل الذي رويت فيه هذه القصة. العلاقة بين الأب والطفل، بين النجار غيبيتو (ديفيد برادلي) وبينوكيو (غريغوري مان) هي طبعاً جوهر القصة، يسبقها عمق المأساة بموت ابن غيبيتو في الحرب العالمية الأولى وسقوط الوالد في الاكتئاب والسكر، ما يجعله يريد أن يخلق ابنه من جديد بنحته على شكل دمية خشبية. بفضل جنية الأخشاب (تيلدا سوينتن)، تنبعث الحياة في هذا الهيكل الخشبي. يحمل الجانب المرئي والفني بأكمله أسلوب ديل تورو السينمائي والاجتماعي والسياسي، تماماً مثل المعنى النصي، إذ حددت القصة أثناء صعود الفاشية في إيطاليا، حيث تم تصوير موسوليني (توم كيني) بطريقة كاريكاتورية، مع كون بينوكيو مركز رواية مجازية حول الحياة وجنية الموت (تيلدا سوينتن أيضاً) والحرية وطرق الزهد والفداء والتضحية بالنفس. بينوكيو بحدّ ذاته شخصية معقدة ومع ديل تورو، يزداد الأمر تعقيداً مع أرضية أخلاقية أكثر إثارة للجدل، وأقل جاذبية للأطفال، على الرغم من أنه متوازن في القصة مع شخصيات أخرى مثل راوي القصة الجرادة سيباستيان (إيوان مغريغور) والقرد سبازاتورا (كيت بلانشيت) والكونت ڤولبي (كريستوف والتز) الشرير. وعلى الرغم من المجاز والخيال المعقد والشخصيات الخرافية التي يخلقها ديل تورو لهذا الفيلم وأسلوبه الذي لا يصلح دائماً للأطفال، إلا أنّ «بينوكيو» يتناسب جيداً مع إطار السينما العائلية. هذا الاندماج البريء للقصة مع عالم الخيال الذي يثير به ديل تورو «بينوكيو»، خلق فيلماً مثيراً للإعجاب يناسب الجميع.
يعرف ديل تورو أنّ داخل كل أسطورة وحكاية شعبية وخيالية قسوةً تظهر بمجرد خدش سطحها، وأن كل قصة تحمل معاني أكبر من تلك الواضحة التي قد تبدو أحياناً تافهة ومباشرة. لذلك كرس المكسيكي جزءاً كبيراً من فيلمه لإظهار هذه الحقيقة المخفية لنا. وكما يفعل غالباً، لم يقتصر عمله على تشويه عناصر القصة الرئيسية وإضافة عناصر أخرى لها، ولكن أيضاً أعادها إلى أصلها، إلى الرواية القاتمة والأخلاقية لكارلو كولودي لتذكيرنا بأن العديد من عناصر هذه القصة لا تعتبر جميلة وخفيفة للأطفال فقط، بل تحمل الكثير من الموت والعنف بدرجة مناسبة ليتعلم منها القصّر. بهذه الطريقة، قدم ديل تورو مخلوقاً مشوهاً في بعض الأحيان غير مرغوب فيه، بعيد كل البعد عن عوالم «ديزني». إن الدمية الخشبية هذه ليست شخصية رائعة، بل كارثة خشبية تمشي على أرجل. يقدم ديل تورو العصيان صفةً مركزية في رحلة هذه الدمية بصفتها كائناً حراً يبحث عن الحب حيناً، ويرفض الخضوع لأنظمة غير عادلة أحياناً، بل يرفض الخضوع لمنظومة الأسرة ويستعمل القسوة والأكاذيب سلاحاً رئيسياً للبقاء.
القصة التي تدور أحداثها في إيطاليا موسوليني، مليئة بالرموز المسيحية وبعناصر روحية أحياناً مرعبة. ولأن الفيلم من توقيع ديل تورو، فإنّ التصميم المبهر للبيئة التي خلقها والمخلوقات التي ابتكرها لتتماشى مع الشخصيات الأصلية ــــ ومع أنها مسرفة في بعض الأحيان بدءاً من الدمية الخشبية التي يصبح نطقها مزعجاً وحتى شريراً ــــ تسير باتجاه إعادة التفكير في المقارنات الدينية والسياسية والتحيزات الاجتماعية للتعاليم الرئيسية في ما يتعلق بما يعنيه أن يصبح بينوكيو إنساناً. هذه النسخة الجديدة من «بينوكيو» عمل جريء، ليس فقط للرسوم المتحركة والستوب موشن، ولكن للسينما بشكل عام. إنه أكثر تعقيداً مما يبدو عليه، من دون أن يتخلى عن وضوحه للبحث عن الترفيه وإيصال ما يريد للجمهور العام. «بينوكيو» ملائم جداً لديل تورو، جعله خاصاً به، أعطاه طابعه وصاغه وفقاً لهواجسه الخاصة بما في ذلك بعض الذي يأتي من الطفولة. ولكن ديل تورو لا يزال ديل تورو، ولا يزال هذا الفيلم فيلماً للأطفال لا يأخذهم على أنهم أغبياء، لذلك توجد في الصورة مساحة أكبر للشعر والفكاهة مقارنة بالرعب، خاصة في ما يتعلق بالجرادة سيباستيان وطموحاته الأدبية والموسيقية التي يتم سحقها بطريقة فكاهية كلما حاول التعبير عنها.
تجري أحداث القصة أثناء صعود الفاشية في إيطاليا


تقنية إيقاف الحركة لا تتناسب كثيراً إلا مع المبدعين الموهوبين بسبب صعوبتها التقنية والفنية. لذلك يشارك في الفيلم مارك غوستافسون، المعلم الحقيقي لهذه التقنية، ما يجعل الفيلم مليئاً بالرموز المرئية، من بينها استخدام الظلال المشوهة على الجدران كإسقاط مذهل للأحداث، والتي ستكون ثابتة طوال الرحلة، ما يسمح للغمزات المجازية أن تأخذ مساحتها. تأخذ نسخة ديل تورو حياة خاصة بها، وتصبح هذياناً بصرياً لذيذاً بديناميتها الخاصة ولحظاتها التي في بعض الأحيان تأخذ طريقاً بعيداً عن القصة الرئيسية.
«بينوكيو» الجديد ليس القصة الكلاسيكية التي نعرفها، بل إنها إعادة ابتكار مناسبة جداً للعديد من التيارات الأيديولوجية التي تعود في وقتنا الحاضر كالفاشية. نحن هنا لا نتحدث عن مراجعة تاريخية، بل عن مراجعة لخيالنا الجماعي الجديد. «بينوكيو» بشكل لا لبس فيه، منسجم جداً مع عالم أفلام مخرجه. ديل تورو يروي بجرأة وطموح وحماس قصة سمعناها آلاف المرات، حافظ على روحها ولكنه قلبها رأساً على عقب، وضعها تحت مجهر وضوء جديدين، أعاد تركيز أولوياتها، وكتابة نهايتها، والتف كثيراً للوصول إلى خاتمتها.

* «بينوكيو» على نتفليكس