هناك أفلام تثير جدالاً حول المسؤولية الأخلاقية للسينما عندما تنقل قصصاً حقيقيّة تتعلّق بمعاناة الآخرين. وهذا الجدال طبيعي وصحي. في الوقت نفسه، هناك أفلام تنسف هذا الجدال من أساسه ــ لأنها من البداية إلى النهاية ـــ مصمّمة لتكون بمثابة إهانة جماعية لكثير من البشر. بعض هذه الأفلام نفترض بها حسن النية، وبعضها الآخر لا تتوافر فيه حتى النية الحسنة، لأنّها تحوّل معاناة بعض البشر إلى سلعة ترفيهية. فيلم «السباحتان» للمخرجة الويلزية المصرية سالي الحسيني ينتمي إلى الفئة المسيئة والسيّئة من الأعمال. يروي «السباحتان» القصة الحقيقية للسباحة السوريّة يسرى مارديني، التي قامت عام 2015، مع أختها سارة واثنين آخرين، بالسباحة وسحب قارب مليء باللاجئين عبر بحر إيجه، لإنقاذ الجميع من الغرق خلال الرحلة البحرية الطويلة. بعد الوصول إلى اليونان ومنها إلى ألمانيا، اختيرت يسرى مع عشرة آخرين للتنافس مع الفريق الأولمبي للاجئين في دورة الألعاب الأولمبية الصيفية في ريو دي جينيرو عام 2016. لم تستطع نتفليكس والحسيني مقاومة إغراء هذه القصة الحقيقية، فحولتها إلى فيلم درامي خارج من أقبية الأمم المتحدة، ومصمّم بيد المفوضية السامية للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين.
«السباحتان» مقسّم إلى ثلاثة أجزاء مختلفة: نبدأ في دمشق عام 2011، بينما تركز يسرى (نتالي عيسى) على تدريباتها للمشاركة في الألعاب الأولمبية، نشاهد شقيقتها سارة (منال عيسى) بداية الاضطرابات في سوريا على موقع اليوتيوب. في لحظة، ينتقل الفيلم بسرعة إلى عام 2015، في خضمّ الحرب في سوريا، لا تزال يسرى تلاحق حلمها مع مدرّبها ووالدها عزت (علي سليمان)، وبدعم من والدتها ميرفت (كندة علوش) بينما تحاول سارة إقناع العائلة بالسماح لهما بالسفر واللجوء إلى أوروبا هرباً من الحرب. بعد الرفض التام من قبل والديهما، يستسلمان ويقرران دعم رحلتهما إلى ألمانيا مع قريبهما عزت (أحمد مالك). الجزء الثاني يصوّر رحلتهما من دمشق إلى برلين عبر تركيا ثم اليونان مع كل المصاعب التي واجهتهما. يحتضن الجزء الأخير من الفيلم كليشيهات الأفلام الرياضية، مع إظهار قتال يسرى وتدريباتها في برلين للوصول إلى الحلم الأولمبي.
في فيلمها الطويل الثاني بعد «شقيقي الشيطان» (2012)، تقدم لنا الحسيني فيلماً ميكانيكياً مصمّماً وليس مكتوباً. كل شيء فيه مرسوم بشكل محدد ليخدم «الرسالة الإنسانية»، من النوع التي تنتجه نتفليكس و«ينجح» بشكل كبير في الغرب. في الفيلم العرب واللاجئون يحتاجون دائماً إلى المساعدة، وطبعاً «الرجل الأبيض» يستقبلهم بقلوب مفتوحة، وطبعاً هناك شخصية المنقذ الأبيض سڤين (ماتياس شفايغوفر) مدرب السباحة الجديد التي يساعد يسرى في الوصول إلى الأولمبياد. يكتفي «السباحتان» بالثناء على مواقف الأمم المتحدة والغرب وحاجة العربي إليهم: انظر كيف يعانون، انظر مدى صعوبة حياة هؤلاء الناس. يدعو الفيلم إلى السلام وفهم الآخر. خطاب يطلب المزيد من الحب، بكل السذاجة التي يمكن أن يمثّلها هذا الطلب.
بعيداً عن الرسالة السطحية التي يحملها الفيلم، صوّرت الحسيني فيلمها بعدم مصداقية، ما جعله غير عفوي، مبنياً على نقاط محددة، ومكرّرة. استغلت الحسيني قصة السباحتين وحولتهما إلى ميلودراما فيها الكثير من الديماغوجية، مصمّمة بوضوح لاستمالة عواطف الجمهور. صنعت المخرجة استعاراتها بطريقة ثقيلة وصريحة، بينما تصرّ الموسيقى على إخبارنا متى نبكي ومتى نتأمل. هناك نزعة في الفيلم لتجميل المعاناة وتعظيم الإنجازات وتحويل المصاعب إلى شيء ينبغي تخطّيه مهما كلف الأمر، كأننا نقرأ كتاب مساعدة ذاتية. حتى مشهد السباحة في البحر والخوف من الغرق صُوّر بطريقة منمّقة، بجمال شاعري، فحوّلت البحر إلى مسبح يشبه المسبح الأولمبي. فيلم سطحي وفجّ، حتى لناحية الموسيقى، نرى سوريا تُقصف على صوت أغنية «تيتانيوم» لسيا، بينما تقول الكلمات: «أنا مضاد للرصاص، لا شيء لأخسره، اطلق النار كما تشاء». تتدرب سالي داخل مخيمات اللاجئين على صوت أغنية unstoppable، وبينما يتم تقسيم اللاجئين في المخيمات، نسمع كلمات أغنية «لا يهمني من أين أتيت». كل شيء واضح في الفيلم، هو سينما المنظمات غير الحكومية.
ميلودراما فيها الكثير من الديماغوجية، مصمَّمة بوضوح لاستمالة عواطف الجمهور


هناك تفاهة واستخفاف يتمثّلان في اللغة المنطوقة. يسرى وسارة يتحدّثان في ما بينهما طوال الفيلم باللغة الإنكليزية. حتى عندما كانتا في سوريا، فالعربية ليست موجودة إلا في بعض المشاهد القليلة. بسبب السيناريو المصمم، لم نرَ أي ديناميكية بين الشخصيات، إذ بدت كأنها رؤوس ناطقة فقط، لا دور كبيراً لها في القصة، بل مجرد أزياء بشرية لتوصيل الرسالة. «السباحتان» لا يعرف أي شيء عن سوريا أو عن اللاجئين. قبل السفر في البحر على متن قارب صغير مطاطي، يكشف لنا الشريط عن جنسيات اللاجئين ومن أين أتوا بطريقة مصطنعة فوقية، ثم يختفون لأنّ لا دور لهم إلا أن يكونوا لاجئين. مستقبلهم لا يهمّ، فالمهم هو النهاية السعيدة للشقيقتين. كل شيء مصمَّم ليكون فيلماً يحمل الأمل بنهاية وردية. مرّت سارة ويسرى مارديني في الحياة الواقعية بالجحيم، حالهما حال جميع اللاجئين، ولكنّ قصتهما استُغلت لتكون وعاءً للرسائل التي يريد الفيلم أن يلقّننا إياها.

* The Swimmers على نتفليكس