من المؤكد، أن إنتاج أو إصدار أي عمل فني، في الظروف السائدة، يعتبر تحدياً صعباً وشاقاً. لكن ذلك لا يلغي أن يكون العمل محطّ تحليل، أو نقد، «ليس بهدف الهدم، وإنما بهدف البناء» على حد تعبير المعلّم البريطاني الراحل بيتر بروك. مناسبة الحديث هو فيلم «يوسف» (إخراج: كاظم فياض. كتابة: حسين حيدر، كاظم فياض، وعلي منصور ـــ إنتاج «بلو هاوس فيلمز») الذي طُرح أخيراً في الصالات اللبنانية. شريط تراجيدي، نفسي، بوليسي، حيث مخرجه يبحث عن هوية سينمائية أصيلة تحاكي البيئة المعاشة. يتناول «يوسف» قصة شاب عشريني، يدعى يوسف إبراهيم (أداء حسين حيدر)، يقطن في ضاحية بيروت المهمشة. تدفعه ظروفه، إلى الالتحاق بمجموعة مافيوية تتاجر بالأسلحة بين سوريا ولبنان، في محاولة منه لإنقاذ أخيه من الموت، نتيجة معاناته من اضطراب نفسي، يُعرف بـ «اضطراب خلط الواقع»، ما يجعله يعيش حياتين منفصلتين ومتناقضتين في آن معاً. تسير الحبكة الواقعية هذه، مع أخرى ينسجها خيال شخصية البطل. «يوسف» يدرس الأدب العربي، ويلعب «الطرنيب» في وقت فراغه، ويمتلك مقهى، ويعاني من مشكلة نفسية... خليط غير متجانس. فماذا تفعل الشخصية؟ ولماذا تفعل ذلك؟ وكيف تفعل ذلك؟
اعتمد الممثلون، بأغلبهم، على الكليشيهات في تجسيد شخصياتهم. أداء إياد نور الدين، يعد كارثياً. ختام اللحام، لم تحمل أي إضافة، وفايز قزق، هذا الممثل المبدع، مرَّ مرور الكرام. حسين حيدر، ممثل واعد، يمتلك مقومات تمثيلية، تحديداً على مستوى الحركة والصوت، كان يمكن استغلالهما، لصقل الأداء، لو تم إعداد ودراسة الشخصية، والبحث في ما يتطلبه الدور. في مشاهد كثيرة، بدا أداء حسين حيدر، غير عضوي: إيماءات في الوجه، لم يكن واضحاً سببها. انفعالات، وصراخ، ونحيب. كنا نتوقع، أن نشاهد شخصية تعاني من خلل نفسي واضح، وتمتلك خصائص مختلفة عن أي شخص يعاني من حالة نفسية موقتة، ناتجة عن خيبات الأمل. فكيف درس الممثل حسين حيدر، ومعه المخرج كاظم فياض، تاريخ الشخصية؟


أكثر من ذلك، لا يمكن للمتلقي تشكيل أي صورة واضحة عن «يوسف»، الذي لم ينقل لنا سوى حالة من الهذيان غير المبرر، ومحاولة لإظهار فكرة البطل المطلق. يدفعنا ذلك إلى التساؤل عما إذا كنا أمام محاكاة أرسطية، تصوّر البطل على أنّه «قديس» يعاني من سطوة القدر عليه، لتدفعنا إلى التماهي المطلق معه أم أننا، أمام حالة من «التغريب الدرامي»، الكفيلة بإيقاظ وعي المتفرج، ودفعه إلى التفكير في واقعه، وإعادة صياغة الأحداث وإسقاطها على حياته الشخصية؟ ومن هنا نسأل: أين دور المؤلف السوري، أكثم حمادة، في المعالجة الدرامية للشخصيات الأساسية في فيلم «يوسف» أم أنّ القيمين لم يستفيدوا من خبراته؟
من الثغرات المفصلية في فيلم «يوسف»، أيضاً، هي الحوارات بين يوسف والمعالج النفسي (أداء وسام صباغ). إذ، كان أداء الشخصيتين، أشبه بأداء نجوم الدراما التلفزيونية اللبنانية، التي تلقي خطابات تلقينية ومباشرة، وتفسر لنا ما الذي يحدث.
«ما يحدث في حركة الكاميرا، هي ما أسميه الرقص بين الممثل والعدسة»، يقول المخرج والمصور الأسترالي كريستوفر دويل، فأين «الرقص» في فيلم «يوسف»؟ وما الذي جسدته حركة الكاميرا؟ وأين سحر الإضاءة التي قد تتحول إلى لغة سرد للعواطف، أو الأفكار؟ حمل العمل السينمائي، كذلك، الموسيقى الصاخبة، بشكل غير واضح المعالم، وغير مرتبط بمضمون الأفكار العشوائية.
بعض الممثلين يشبهون بأدائهم نجوم الدراما التلفزيونية


إن تصوير الواقع المعاش يعتبر من الأمور المهمة التي نفتقدها في الأعمال السينمائية اللبنانية الحديثة. الواقع الاجتماعي، انسحب، في أحيان كثيرة، على الخطاب السينمائي في فيلم «يوسف» الذي يقارب الأنظمة الفاسدة وغياب الدولة والفوضى والتهميش وانعكاساتها على سيكولوجية الشباب القاطنين في ضواحي المدينة. لكن، كنّا نتوقع أن نكون أمام شريط أعمق، وأنضج، وأهم، في الصالات اللبنانية. نحن بحاجة، لا للترفيه فقط، ولا لنقل سرديات الهوامش والضواحي، بل نحتاج لإعادة بلورة الأسئلة في فضائنا العام، وبث الأسئلة في نفوسنا. لا نتطلع في عملية تلقّينا للفيلم، إلى الحبكات المعقدة، ولا للظروف الصعبة التي مرَّ بها طاقم العمل، ولا لاستعراض العضلات التمثيلية.
يذكر المخرج كاظم فياض لنا إنّ الفن كالسياسة لديهما مهارات كبيرة في التواصل مع الناس والتأثير عليهم. وانطلاقاً من هذه النقطة، يستطيع الفن التغيير والتأثير في آن معاً. ويضيف فياض، إن اختيار هذا الفيلم في المهرجانات الدولية، لم يكن بهذه السهولة. فقد واجه طاقم العمل تحديات كثيرة، على المستويات كافة، من شح التمويل، إلى ظروف المشاركين الصعبة في العمل. لكن الإيمان بالفن والإصرار على إنتاج عمل فني في هذه الأزمات الصعبة، هما اللذان أوصلا الفيلم إلى هذا المستوى. وأخيراً، يؤكد المخرج على أنّ من واجبه الوصول إلى الجمهور، وهو ينتظر الأصداء التي سيحظى بها الفيلم من قبله، بهدف تقديم الأعمال السينمائية بشكل أفضل في المستقبل.

* فيلم «يوسف»: صالات «غراند سينما»، «سيتي مول» (ضبية)، «سينما سيتي» (أسواق بيروت) و«فوكس سينما» (الحازمية)