لم ييستغرق جوردن بيلي وقتاً طويلاً ليثبت نفسه في المشهد السينمائي العالمي. منذ ظهوره للمرة الأولى مخرجاً، عام 2017، وضع السينمائي الأميركي أسساً لأفلام الرعب الخاصة به. إنه الطريق السينمائي الذي حدّده ليمزج فيه أفكاراً مثل العنصرية وتهميش الطبقات الفقيرة والنقد الاجتماعي، ضمن قصص مرعبة تحدث في وضح النهار وفي بيئات عادية تماماً. في باكورته «اخرج» (2017)، أحد أكثر الأفلام المفاجئة التي قُدِّمت في السنوات الأخيرة، عزّزت الطريقة التي قدّم بها العنصرية الأميركية ضد أصحاب البشرة السوداء في قالب كوميدي مرعب، من مكانته بصفته مخرجاً واعداً، وناقداً اجتماعياً ناقماً على النظام في أميركا. أكمل بيلي ما بدأه في فيلمه الثاني «نحن» (2019) الذي لم يكن بمستوى التوقّعات ولا بمستوى فيلمه الأول، لكنه لم يبتعد كثيراً عن الأصالة السردية التي يتمتّع بها.
كل مشهد مليء بالمراجع التاريخية والرموز والإيحاءات

عاد بيلي هذه السنة بفيلم جديد هو Nope الذي يمكن اعتباره الأكبر في مسيرته، ليس من حيث حجم الإنتاج فقط (وصلت ميزانية الفيلم إلى 68 مليون دولار، بينما بلغت ميزانية Us حوالي 20 مليون دولار، وGet Out حوالي 4.5 ملايين دولار فقط) بل لأنه أيضاً قدّم ملحمة كبيرة وغنية متعددة الطبقات. سينما تزور أنواعاً عديدة مثل الويسترن والرعب والخيال العلمي والدراما العائلية. فيلم يستحق المشاهدة على أكبر شاشة وأفضل نظام صوتي ممكنين، على الرغم من التعثر السردي في الجزء الأول وواقع أنّ أكثرية الأفكار المقدّمة في الفيلم لم تتوافق بشكل جيد مع بعضها.
تقع قصة Nope في سياق التشكيك المستمر بأخلاقيات المهنة السينمائية وهوس الصورة السائد في عالم الترفيه. يبدأ الفيلم بالشقيقين أو جيه (داميال كالويا) وأيميرالد (كيكي بالمر) حفيدي الفارس الأسود المنسي الذي ظهر في أول تسلسل للصور المتحركة (فيلم «حركة الحصان»/ 1878 - ثلاث ثوانٍ). بعد موت والدهما، يكافحان للحفاظ على الأعمال العائلية في تربية الخيول وتدريبها من أجل إنتاجات هوليوود. لكنّ تطور هذه الصناعة والاستخدام المتزايد للتأثيرات البصرية، جعلا مهنتهما قديمة. بعد غياب والدهما، وبيع الابن بعض الخيول والتفكير في بيع المزرعة بكاملها، يحدث شيء غريب. يكتشفان أنّ مزرعتهما والمنطقة التي يعيشان فيها، تحوم فوقهما «صحون طائرة» أو «مخلوقات فضائية» تتغذى على أكل الخيول والبشر. يشار إلى أفراد العائلة على أنهم «ملوك هوليوود» أحفاد أول رجل ظهر في صورة متحركة، لكن لأنّ تجربة فيلم «حركة الحصان» لم تكن إنجازاً تم تحقيقه من منطلق الالتزام بالتطور الفني، ولكن لأن ليلاند ستانفورد، الرجل الأبيض الغني أراد من الفيلم فقط التحقق مما إذا كانت أقدام الخيول في لحظة معيّنة عند الجري تكون كلها في الهواء. وبالطريقة البراغماتية نفسها، أراد بيلي من خلال أيميرالد مواجهة الجسم الغريب من خلال تصويره على شريط فيديو أو صورة من أجل إيجاد طريقة لتصبح مشهورة ووضع أعمالهم من جديد على الخريطة.

يمزج Nope بين الويسترن والرعب والخيال العلمي والدراما العائلية

يغرقنا بيلي في عالم خارق للطبيعة، بفيلم يسلّي وفي بعض الأحيان يرعب ويسحر. مرة أخرى، استخدم الاقتباس الديني، وبدأ فيلمه بجملة «أقذفك بأرجاس، وأطرحك، وأُشمت بك كل من يراك» (ناحوم 6:3)، تقدم هذه الآية بداية لحبكة موازية تثبت تركيزها على فكرة الأشياء التي تسقط على الشخصيات من السماء طوال مدة الفيلم. الطريقة التي يقاتلون فيها المخلوقات الغريبة مسلّية، ولا سيما الطريقة التي يكشف فيها بيلي المزيد والمزيد عنه وعن طريقته التي ينمّي بها مغامراته ورعبه، والتي تعد مشهداً بصرياً كبيراً. كل مشهد مليء بالمراجع التاريخية والرمزية والإيحاءات التي تؤثر على Nope بشكل عام، ما يجعل القصة مسلية للغاية. التعليقات حول قيود التصوير الفوتوغرافي والهوس بالصورة، تجعلنا نتساءل عمّ يهمّ أكثر: ما تمّ تصويره أو ما حدث من أجل تحقيق هذه الصورة؟ يصبح هذا أكثر وضوحاً مع شخصية أنتليرز (مايكل وينكوت) صانع الأفلام الأسطوري الذي يريد المساعدة في القبض على المخلوقات والتقاط صورها. إنه موجود ليمثل أفضل وأسوأ ما في هوليوود: ذلك الإبداع وذلك الشغف بالفن يأخذانه إلى أبعد الحدود من أجل الحصول على «اللقطة المستحيلة».
يصنع بيلي أفلاماً عن الشخصيات السوداء التي تبني وتدافع عن هويتها في ظل أقسى الظروف، وتحدد البيئة طريقة تفاعلها مع محيطها. في الفيلم، هذه المخلوقات هي في المقام الأول مصدر محتمل للمال وتطوير الذات قبل أن تكون مصدراً للموت. يُظهر جوردان بيلي أنه أحد المخرجين القلّة الذين يتمتعون بالقوة الكافية لتصوير ما يريد وكيفما يريد، حتى مع المخاطرة بإحباط توقعات شريحة كبيرة معينة من جمهوره ومدراء شركات الإنتاج. هو يرحّب بهذه الحرية مع جرعات من النزوة والتعسف بكل ثقة بالنفس وتلك القدرة على الاستفزاز. هذه الحرية اللامحدودة ــ التي تأتي بعد نجاح كبير ـــــ ليست جيدة للعديد من صانعي الأفلام، وللأسف بيلي ليس استثناء. لم يقلق بيلي كثيراً بشأن تنظيم فيلمه وعناصره الغامضة، ولعب على حبل التوقعات والأحداث الواضحة. في Nope لحظات ملهمة نجح فيها الفيلم بأن يكون مرعباً بصرياً وسمعياً ولكنْ هناك نقص في الطاقة وفي الإيقاع وكيفية تنفيذ اتجاه هذه الأفكار. أخذ الفيلم وقتاً طويلاً ليصل إلى ذورته، وأصبح فاتراً. رسم بيلي كل شيء بنغمة سردية وأرغم فيلمه على إخفاء ما هو واضح من أجل تقديم ملحمة بصرية تفتقد للجوهر. وهنا ندرك أنّه كان هناك إهمال معين في الكثير من الجوانب مثل الشمبانزي القاتل الذي افتتح الفيلم، والطاقات الكونية التي لا يمكن تفسيرها في بعض الأحيان التي تنتهي بأن تكون باهتة جداً.
اشتهر المخرج الأميركي بمقاربة قضايا مثل العنصرية وتهميش الطبقات الفقيرة


على الرغم من إيجابيات الفيلم، لم يكن Nope قادراً على إحداث تأثير مغادرة السينما والنظر إلى السماء في حالة رعب. لكنه تجربة سينمائية ممتعة للمهتمين، إذ تعدّ إلى جانب الرعب، تكريماً للمخرج ستيفن سبيلبيرغ وفيلمه «لقاءات قريبة من النوع الثالث» (1977). يمكن أن يكون الفيلم بريئاً ومضحكاً ومرعباً وممتعاً، ولكن جوردن بيلي يمكنه فعل المزيد. لربما أراد أن يقول المزيد عن وحشية الأعمال الاستعراضية وجشع الترفيه وهوسنا بالصورة، لكن يبدو أنّه ضلّ طريقه في المنتصف، ربما قام «الجسم الغريب» بتنويمه مغناطيسياً. نأمل أن يتحدى بيلي نفسه أكثر قريباً.

* Nope في الصالات