يمكن الحديث مطوّلاً عن فيلم «دفاتر مايا» للثنائي اللبناني جوانا حاجي توما وخليل جريج. لعلّه أحد أجمل أفلام هذا الموسم لناحية الصورة وخطابه الجمالي. لكن ماذا عن فكرة الفيلم ومضمونه، وجمهوره ولغته المحكيّة؟ نحن أمام فيلم يستحضر ذاكرة الحرب الأهلية اللبنانية، الممجوجة، المستهلكة في مئات الأفلام اللبنانية منذ اندلاعها عام 1975 وصولاً إلى يومنا هذا وإن بطريقة «مختلفة». كل هذا مقبول، لكنّ المشكلة الكبرى تكمن في «الطرح».

تدور القصّة حول ثلاثة أجيالٍ من النساء: الجدة، والأم والابنة اللواتي يعشن في كندا بعدما هربت الجدة والأم من جحيم الحرب الأهلية. الابنة أليكس تفضّل الحديث مع جدتها بالفرنسية. طبعاً لا أحد يعرف لماذا لا تتحدّث الفتاة بالعربية، مع أنّها تعرفها وتنطقها «لماماً». كل هذا يمرّ، حتى يصل «صندوق» يحمل ذكرياتٍ ورسائل من مرحلة شباب الأم «مايا». طبعاً هذه الرسائل المدهشة التي تتنوّع بين رسائل ورقية، وصوتية (أشرطة كاسيت) وحتى بطاقات سينما وحفلات من تلك المرحلة؛ تشير المخرجة وكاتبة الفيلم جوانا حاجي توما في رسالة عند بداية الفيلم، إلى أنّها مستوحاة بتصرّف من مراسلات شخصية بين عامي 1982 و1988. سرعان ما تفتح الابنة الصندوق، وتغوص في عالم الرسائل. هنا تتجلى مهارة المخرجين اللذين يقدّمان صوراً مبهرة مصنوعة بطريقة الغرافيكس والتصوير السينمائي. تكتشف أليكس أن أمّها كانت شابةً مملوءة بالحياة، ذات عالم كبير مليء بقصص الحب والصداقات، اقتطعتها الحرب بشكلٍ سريع. يغوص الفيلم في تلك الرسائل، وتظهر حرفة المخرجة في التعامل مع الصورة وتفاصيل القصة، فتتنقّل بسلاسة بين الماضي والحاضر، فلا يشعر المشاهد بأي ثقل نهائياً.
أدائياً، يمكن القول بأنّ جو قديح، الممثل والمخرج المسرحي اللبناني يقدّم أداءً عالياً، مع أنه لا ينطق حرفاً واحداً في الفيلم، لكن استخدام ملامح وجهه، ردات فعله الجسدية، كما منطق حركته جعل مشاهده أشبه بالرقص التعبيري. أجاد جو تقديم شخصية الأب كما تريد المخرجة تقديمها. هو يظهر «امتعاضه» حال الوقوف أمام الحاجز، لكنه سرعان ما يكسر نظره وينكسر تالياً، يتعامل مع ابنته بهدوء جبان، ويبدو ضعيفاً واهناً أمام زوجته التي تنهره «روح من وجي». كل هذا من دون أن ينطق كلمةً واحدة. الممثلتان التونسية ريم تركي واللبنانية منال عيسى تقدمان أداءً جميلاً، عفوياً خالصاً وهادئاً. منال عيسى تقدّم شخصية الفتاة التي تعيش في الغرب، سلوكاً ومنطقاً واستخداماً للغة. أما ريم تركي التي عرفها الجمهور العربي مع المخرج يسري نصر الله في دور البطولة في فيلمه الشهير «باب الشمس»، فتحاول أن تظهر «انقسامها» بين عالمين، وإن مالت إلى عالم «الغرب» أكثر، لأنّ «لا شيء تستذكره في بلادها إلا الألم».
يصوّر «دفاتر مايا» الرجل بطريقة سلبية. تحجبه المخرجة نهائياً من الصورة. وإذا ظهر، فإنه يبدو كمفرّغ للطاقة أو الغضب أو حتى لرمي الفشل عليه، كالرجل الذي تقيم الأم علاقة عابرة، لا تعرف عنها ابنتها أو أمّها شيئاً. نحن لا نرى هذا الرجل، إنه «شيء» تستخدمه الأم، شأنه شأن أحباء وأصدقاء الأم في صباها، كلّهم تشعر أنّهم «بلا وجوه» أو «ملامح» وحتى لو امتلكوها، فإنّهم يفقدونها لجبنهم أو ضعفهم كما حدث مع «رجا» (ربيع مروة) حبيب الأم في صباها. أما إذا ظهرت صورة «الرجل» المباشرة، فهي تظهر على شكلين: الأوّل بشكل «المسلّح» الميليشيوي على الحواجز، وهو ما يوحي بصورة القاتل اللاأخلاقي الساقط من جميع النواحي. أما الصورة الثانية، فهي صورة الأب المكسور، المسحوق، الضعيف أمام زوجته وابنته، المنهار كلياً في لحظةٍ ما، فينتحر في نهاية هي قمّة الكليشيه. مع العلم أنها حاولت كسر «القالب» بأنَّ تقدّم «خلفية» للأب عادل، ذات بعد نضالي ثوري وثقافي. لكن حال ظهور الشخصية على الشاشة، تدحض الفكرة تماماً. إنه «يفقد إيمانه بأفكاره شيئاً فشيئاً» بعد موت ابنه. في المقابل هناك صورة «المرأة» المطلقة، التي تغوص في الحب «الذي سينقذها من هذا الجنون» (تقصد الحرب). في الوقت نفسه، تحمل الأم، والجدة، والفتاة إرث العائلة، وحياتها، فيما لا ذكور، إلا في الخلفية كشخوصٍ مكسورة بشكل مطلق.
فيلم يفتقد إلى العمق ويتوجّه إلى الجمهور الغربي


الأمر الثاني اللافت في الشريط هو تقديم المخرجة فكرة الحرب بسطحية مبالغٍ بها. حال وصول العائلة أمام حاجز أحد «الأحزاب المسلّحة»، لا نستطيع تحديد ماهية هذا الطرف وإن بدا من «اليسار»، فيما اختفت شعارت الميليشيات اليمينية التي كانت تزدان حواجز «المحبة» لديها بشعارت معينة. لماذا غيّب الفيلم الأطراف المعنية في حربٍ حُكي الكثير عن أسبابها، مسبّبيها ومشعليها؟ لماذا اختارت المخرجة أن تلعب ورقة «المجهول» وأن «تعقّم» الواقع بهذه الطريقة؟ لماذا اختارت منطق «الإخفاء» حتى بدا لنا أنّ الفيلم يتحدّث عن أي حرب حصلت في أي مكان في العالم؟ أمرٌ آخر، لا تفهم ماهيته، هي إصرار الأبطال على التحدّث بالفرنسية. الأم وابنتها وشخصيات كثيرة تتحدّث بأي لغةٍ إلا العربية ولا تستعملها إلا للضروة القصوى. ما السرّ خلف ذلك؟ هل لأنّ جمهور الفيلم هو الجمهور الفرنسي/ الغربي؟ أما النهاية، فبدت كليشيه هي الأخرى، حين عادت البطلة إلى البلاد مع عودة «الإعمار» خلال فترة الحريرية السياسية... كليشيه تلك المرحلة أرّخها أحمد قعبور بأغنيته الشهيرة!
باختصار هو فيلم ممتع بصرياً، وإخراجياً. أما لناحية «القصة/ المضمون»، فإنه يفتقد إلى العمق، فضلاً عن أنه يتوجّه إلى جمهورٍ غير عربي، شأنه شأن أفلام لبنانية/ عربية كثيرة باتت تعتبر أن لا جمهور في بلادنا. لذلك من الأفضل أن تتجه صوب رأس المال، ومؤسسات التمويل وأن تخاطبها بلغتها المباشرة.

* «دفاتر مايا» على قناة «إي. أر. تي أفلام 1»