حتى لحظة كتابة هذه السطور، لم يبدأ بعد فيلم «بيروت هولدم» لميشال كمون ولم ينته. المخرج اللبناني عاجز من دنو النهاية، ناهيك بالشروع في القصة. «بيروت هولدم» لا يحتوي على شخصيات ولا قصة ولا أيّ شيء يمكن تسميته حبكة، لا يقدم أي سبب لمشاهدته، أي لا يوجد شيء داخل صوره. لا يفيد إن أسمينا «بيروت هولدم» فيلماً أو لا، لأنه في أحسن الأحوال أشبه بطاولة قراءة، منتج تجاري يُسمى ظلماً سينما. مشاهدة الفيلم في هذه الأحوال الاقتصادية الصعبة، تتطلّب رغبة كبيرة للتخلص من الأموال من أجل إضاعة ساعة ونصف ساعة من الحياة. بعد أكثر من عقد على باكورته «فلافل» (2006)، عاد كمون إلى الصالات بفيلمه الروائي الثاني «بيروت هولدم» (كتابته وإخراجه) ليسرد لنا يوميات زيكو (صالح بكري) الذي أُطلق سراحه للتوّ من السجن فيحاول بناء حياته من جديد. خسر زيكو شقيقه خلال وجوده في السجن بسبب سباق درّاجات غير قانوني. عند خروجه، يحاول استعادة حبيبته كاول (رنا علم الدين)، يلتقي بأصدقائه (فادي أبي سمرا، زياد صعيبي وعصام بو خالد)، يحاول فعل ما يجيد فعله، أي الاحتيال والقمار والرهان في سباق الخيل. ينخرط في عمليات غشّ، يقيم علاقة عابرة مع امرأة (ريتا حايك)، يحاول استرجاع الأموال التي سلّفها إلى صديق كان مهدداً بالقتل إن لم يسدّد ما عليه، وإنقاذ صديق شقيقه (سعيد سرحان) من مصير أخيه. يحصل على المال بالاحتيال لينقذ والده، يقامر ويفتح مركزاً للتسلية، ولكن كل شيء ينقلب دوماً عليه، وفي النهاية وبطريقة سحرية فجّة غير قابلة للتصديق، وبقدرة قادر، تختفي كل العقبات وتُحل جميع المشاكل، وتهلّ علينا النهاية السعيدة، ويمطرنا زيكو بمونولوغ سطحي بينما يقود سيارته في شوارع بيروت.
الفيلم يشبه تماماً المقطع السابق المكتوب بركاكة. سيناريو الفيلم مكتوب فقط بكلمات، يفتقد إلى سحر السينما. لا مركز للقصّة، ولا إيقاع للفيلم. أدار كمون ظهره لفيلمه وللجانب المظلم من شخصياته الكثيرة إن وُجدت، ووضعها كما فيلمه في سياق غير مفهوم. مسار العمل بيّن عدم مبالاته بوجهة الأحداث. المهم أن يحصل شيء، أي شيء، وما يحدث بعد ذلك ثانوي. الشريط عبارة عن مزيج مثالي من اللاشيء، كأن كمون ابتكر تقنية اصطناعية لإنشاء نص يكمل نفسه تلقائياً. المشكلات لا تحصى، من سيناريو مكتوب بخفّة تحوّل إلى مشاهد سريعة جداً تتخللها أحاديث بين الشخصيات لا تتعدى أطول جملة فيها بضع كلمات. كأننا أمام مسابقة أسرع سؤال وجواب. فجأة ننتقل بين عالم سباقات الأحصنة إلى زواج وولادة ثم مستشفى، فسباق سيارات ثم جنس في السيارة، فانفجار فموت وما إلى ذلك. الفيلم مقطَّع كأننا نشاهد حلقة تلفزيونية حواريّة تنتقل فيها الكاميرا من رأس ناطق إلى آخر من دون إبداع تتخللها بعض النكات غير المضحكة. زيكو المعذّب الذي يبحث عن الخلاص والفداء، لا يملك عمقاً ولا حتّى ظلاً.
لو حذفنا بعض الشخصيات ونصف المشاهد فلن ينقص شيء في الفيلم

لم نعرفه كما لم نعرف حقاً جميع الشخصيات. هذا الإنسان يُفترض أنّه مدمّر، لكنّ كمّون لم يدخلنا إلى أحشائه. بقينا فقط مع قشرته الخارجية، لم نشعر معه، لم يحدثنا، لم يقل لنا شيئاً. صالح بكري ممثل ممتاز، لكنّ هذا السيناريو المقتضب حدّه تماماً. وبالرغم من إتقانه اللهجة اللبنانية، إلا أنها أعاقت أداءه بعض الشيء في هذا الفيلم. لم يعط كمون المساحة الكافية لشخصية زيكو، لا في كلامه ولا في صمته. لا نعرف علاقته المضطربة بوالده (روجيه عسّاف) وعلاقته بوالدته، ولا حتى طبيعة علاقة حبه مع كارول. يدور الفيلم حوله وحول أصدقائه، لكنّ كل الشخصيات تظهر وتختفي من دون مبرر ولا تسلسل. طوال الشريط، نحاول أن نلملم ما هو مفقود، إلى أن نستسلم في النهاية. سباق الخيل وطاولات القمار التي هي مسرح لأحداث درامية يمكن أن يستفيد منها المخرج إلى أقصى حدّ، كانت مجرد إضافات غير مجدية. إن شاهدنا سباق خيل على التلفزيون أو لعبة بوكر منقولة مباشرة، سوف نتحمس أكثر مما تحمسنا عند مشاهدتها في الفيلم. أجمل ما في العمل هو الموسيقى. أنغام سينيا زافين منحت إيقاعاً لمشاهد لا توازن فيها.


هناك نوع من الاستسهال، إلى درجة أن أسوأ التوقعات تحصل، بمعنى أنّه خلال مشاهدة الفيلم، نتوقع أنّ شيئاً ما سيحدث، لكنّنا نقول في أنفسنا إنّه لا يمكن أن يكون المشهد المقبل بهذا السوء، لكن يحدث ما هو أفظع منه. ولتمضية الدقائق، نبدأ بالتوقع ثم نضحك على توقعاتنا التي تحصل أمام أعيننا. أدنى مقوّمات الفيلم الجيد غير موجودة: أحداث تقع بدون تسلسل زمني أو مكاني منطقي. ننتقل عبر الأيام والشهور، بين ليلة وضحاها من دون أي إيقاع زمني، حتى بيروت الموجودة في عنوان الفيلم لم نرها. مشاهد مرفأ بيروت غير المدمر (صوِّر الفيلم قبل سنوات من انفجار المرفأ) لم تشعرنا بشيء. بيروت في الفيلم مجرد زينة، اسم مدينة نستعملها لمجرد محاولة إضفاء نوع من العمق على الأحداث، إذ استجلب كمّون بعض «الأكشن» والأحداث الأمنية عبر الإذاعة أو التلفزيون، كخلفية أراد بها منح شريطه عمقاً لم يتحقّق. كأن بيروت مكان مؤهل ليكون مسرح أحداث درامياً، وهذا صحيح، ولكن علينا أن نكون صادقين مع أنفسنا ومعها، وأن نفهمها لا أن نحشر اسمها في الفيلم لمجرد ادّعاء العمق. حتى اسم الفيلم «بيروت هولدم» هو اسم محل التسلية الذي يفتتحه زيكو، وبدوره يظهر في ثلاثة أو أربعة مشاهد مقتضبة. لهذه الدرجة، لم يستطع كمون التعامل مع أي مساحة اخترعها لتكون محور فيلمه، ناهيك باسم العاصمة. أضف إلى ذلك أنّ ميشال كمون كتب فيلماً للرجال وعن الرجال، ونسي النساء اللواتي بدون مجرد أكسسوارات. لن يتغير شيء لو حذفنا النساء! حتى لو حذفنا بعض الشخصيات ونصف المشاهد، لن ينقص شيء! لم يعرف كمون كيف يتعامل مع شخصياته النسائية. لقد همّشهن قبل ظهورهن حتى على الشاشة. أنهى فيلمه بمونولوغ لزيكو يتحدث فيه مع طفل صديقه في السيارة. هذا المشهد كان أطول مشاهد الفيلم وأكثرها نطقاً للكلمات، بما يعني أن هذا المشهد هو ما أراد المخرج أن يقوله لنا بطريقة مباشرة. مونولوغ سطحي بعض الشيء، لا علاقة له أصلاً ببنية الفيلم. مشهد لا داعيَ له كما الكثير من المشاهد التي تم حشوها لمجرد ادّعاء عمق غير موجود، سواء في استحضار بيروت والأحداث الأمنية في الخلفية، أو لشخصية نسيناها في منتصف الشريط. نحن أمام فيلم لم يحرّك فينا شيئاً. مع أن كل شيء مقبول في السينما، لكن ما فعله كمون قد يجعلنا ديكتاتوريين تجاه ما يمكن مشاهدته على الشاشة. حزين ما يحصل للسينما في لبنان، ولكنّ شاشتنا تشبه كثيراً حال البلد.

«بيروت هولدم» في الصالات