«زوجة حفّار القبور» مفعم بالأحاسيسفي باكورته الروائية الطويلة، يستحضر المخرج الصومالي الشاب خضر عيدروس أحمد، الأستاذ السنغالي عثمان سمبين بالطريقة التي كان سمبين يتعامل بها مع مواضيع ومشكلات حميمية واجتماعية من حبكة بسيطة للغاية. قصة خفيفة قد تجعل بعضهم يخال بأن المخرج لم يكن جريئاً بما فيه الكفاية لطرح مشكلات بلاده من خلالها. لكن فيلم عيدروس أحمد مفعم بالأحاسيس ولا يمكن أن يتحدث المخرج عن المشاعر بهذه الطريقة القوية من دون أن يكون طرياً وحميمياً.

من «زوجة حفّار القبور»

جوليد (عمر عبدي) ونصرة (ياسمين أبشير ارسام) زوجان جميلان محبان ومغرمان بشدة، يعيشان في ضواحي مدينة جيبوتي مع ابنهما المراهق مهاد (قدار عبد العزيز إبراهيم). تحتاج نصرة بشكل عاجل إلى جراحة لعلاج التهاب الكلى. يعمل جوليد كحفّار قبور لتغطية نفقات عائلته، لكنه يحاول مع ابنه تأمين المال اللازم لإنقاذ نصرة، من خلال القروض والوظائف المختلفة وحتى من العائلة البعيدة. بيئات النهار والليل والألوان المختلفة تحرك الأبطال، والبيئات الطبيعية تكشف الدراما بشكل مثالي. تروي صور الفيلم يوماً بعد يوم سعي العائلة بمرونة كبيرة. على الرغم من الحزن، لم يقع عيدروس أحمد في العاطفة الباكية، بل أعطى شخصياته إنسانيةً عظيمة في كل مشهد. حتى مشهد حفاري القبور الذين ينتظرون على أبواب المستشفى ليتمكنوا من الحصول على المال مقابل وفاة شخص ما، قدمت من دون شفقة. المشاهد القاسية والأخرى السعيدة، محشوة بتوازن بين الإحباط والمرض والكرامة التي تتمتع بها كل الشخصيات. عيدروس أحمد يطبع الإنسانية في كل لحظة، شخصياته جميلة جذابة ولطيفة، صوّرها بكل حبّ.
على الرغم من أن الفيلم خطي للغاية، صوِّر بدقة واضحة لا مجال فيها للخطأ، إلا أن هذه الطريقة التي دائماً ما تكون خطرة في السينما، قدمها المخرج هنا بطريقة إيجابية، جعلتنا نتقبلها من دون عناء. يبقى الفيلم في الذاكرة، بدءاً من شوارع جيبوتي المليئة بالبشر وضواحيها، إلى الامتداد الطبيعي شبه الصحراوي الذي يرافق مشاهد جوليد عندما أراد العودة إلى القرية التي ولد وترعرع فيها بحثاً عن المساعدة. شعور بالنقاء والصفاء يراودنا طوال الفيلم، حتى المشاهد النهائية القاسية والعنيفة فيها توازن حميمي يفسح المجال للمشهد الأخير الرمزي. «زوجة حفّار القبور» سينما بسيطة بميزانية منخفضة لكن بجودة إنسانية وسينمائية كبيرة. سينما نادرة من بلد نادراً ما يقدم أفلاماً.

«الإبحار في الجبال»: رحلة سفر
في كانون الثاني (يناير) 2019، بعد وفاة والدته أيراسيما، قرر كريم عينوز، للمرة الأولى، الذهاب إلى وطن والده ماجد، الجزائر، لاستعادة تاريخه والتعرف إلى المكان ومعرفة المزيد عن أصوله. ما كان يبدو في البداية أنّه مقطع فيديو لهذه الرحلة التي بدأت من باخرة في البحر ثم العاصمة الجزائر نحو جبالها البعيدة لاكتشاف أصول الذات، استحالت انعكاساً وجودياً للمسارات المحتملة التي يمكن أن تتخذها الحياة. الفيلم عبارة عن مشاهد غير متجانسة، صوّرها المخرج بنفسه لتتخذ ثلاث طبقات. الوقت المادي التي يتجه فيه المخرج نحو الجزائر التي لا يعرفها، والزمن النفسي الذي يعود فيه إلى ذاكرة العائلة، والزمن العاطفي وهو الحاضر حين يتحدث مع والدته بصيغة المضارع، كأنّها بجانبه.

من «الإبحار في الجبال»

الفيلم رحلة سفر، لا طاقم تصوير. فقط المخرج والكاميرا بيده يصوّر بلاده ووجوه أبنائها. شيئاً فشيئاً، بدأ يشعر أنه في المنزل، تعمّق أكثر في الخصوصيات والعادات وأفسح المجال للناس لتقديم شهاداتهم أمام الكاميرا. بالتوازي مع الرحلة التي يقوم فيها عينوز إلى البلدة الصغيرة في منطقة القبائل التي ينتمي إليها والده ولا يزال يعيش فيها بعض الأقارب البعيدين غير المدركين لوجوده، يحكي لنا كريم بصوته قصة والدته ووالده، كيف التقيا، حبهما، رحلاتهما، الانتقال إلى البرازيل والكثير من المواقف الخاصة التي أثّرت على طفولته وعلاقة والدته ووالده. يحلل كريم بصوته ويطرح الأسئلة ويتحدث مع والده. يحلل سياسياً واجتماعياً وميثولوجياً الجزائر والبرازيل بين الماضي والحاضر. طوال الفيلم، أعاد عينوز بناء تاريخ والديه. لم يفعل ذلك بالترتيب الزمني، بل بطريقة متناثرة لكن فعالة. القيود التقنية لهذه الفيلم لا تزعج، بل إنّ عينوز بخبرته عرف تماماً ما يريد منها، فالصورة في النهاية تلتقط تجربة. ما يميز «الإبحار في الجبال» هو أن فيلم عينوز شخصي بقدر ما هو عالمي، يتقاطع مع موضوعات مهمة من تاريخ القرن العشرين وعواقبه في الحادي والعشرين، بين الجزائر وكولورادو وباريس والبرازيل والديكتاتوريات العسكرية وحرب الاستقلال في الجزائر.
يغذي عينوز الفيلم بلقطات تشبه الحلم، ويضع أمام نفسه وأمامنا آفاق الحياة البديلة المكونة من أماكن وأشخاص ولغة وتاريخ لإضفاء نفحة تجريبية على زوبعة الاستطراد الوثائقي. يتأرجح بين التأمل الحميم والتحليل التاريخي ورسالته إلى والدته، رفيقته الغائبة في هذه الرحلة الاستكشافية. «الإبحار في الجبال» مشبع بالأوهام والتجريدات والتخمينات والاقتراحات والرغبات العميقة والحاجة إلى التعبير عنها والبحث الشخصي عن عائلة تمرّ عبر مسار جغرافي وتاريخي. لا يوجد العديد من الأفلام التي تنسق العلاقة بين الاحتمال والصورة المباشرة، بين السينما والواقع المعاش. سينما كريم عينوز تنتقل في الأفق السينمائي وتنسّق هذه العلاقات. هوية المخرج السينمائية توثق نفسها وتتجاوز الاحتمالات وتتأرجح بين الماضي الذي يغمرها والحاضر الذي يفلت من يديها. كريم عينوز يلجأ دوماً إلى السينما عندما ينقلب الواقع عليه. لذلك، يهرب في الفيلم من قرية أبيه، من دون أن يودّع أحداً. يحتمي في سينماه، في الصورة، حيث يستطيع أن يجمع ما كسره الزمن ويجد لذاكرته منزلاً.