أحياناً، عند تناول الكثير من «الخضروات» الثقافية، مهما كانت مفيدة للصحة، يؤدي ذلك إلى إرهاق فكري غير مجد. الحاجة إلى دمج الوقت الحقيقي في فضاء ما، كوحدة للمكان والزمان، حيث يصبح الفضاء هو الوقت، تجرّنا في بعض الأحيان إلى وقت ميت. وبناء مادة حول هذا الفضاء بطريقة لا عقلانية تأملية، يصل إلى لا مكان. ومنح الوسيط السمعي البصري الكثير من الوهم والأحلام من دون توازن، يؤدي إلى تدني مستوى النص والسرد. فيلم «النهر» (2021) لغسان سلهب الذي عُرض ضمن «أيام بيروت السينمائية»، هو حول هذه الخضروات والأماكن والأزمنة والأحلام، والاستعارة والرمزية غير المؤثرة، الضائعة في تفاصيل لا لزوم لها، الغارقة في اللاحوارات والمفتقرة إلى إبداعات تخرج من أحشاء مخرج، إضافة إلى حشو للربط بين عناصر متباعدة. لذلك، لا يوجد في «النهر» سرد، لأن سلهب لم يستطع اتخاذ قرار بشأن فكرة مركزية، فينفجر الفيلم في اتجاهات مختلفة بلا وجهة معينة، وهذا يجعل من الصعب مواكبته. لطالما كان غسان سلهب، سينمائياً فريداً. لا يقدم أعذاراً ولا تهمّه الأشكال التقليدية في السرد. سينماتوغرافيا غسان، إن أحببناها أو كرهناها، أثرت بلا شكّ على الحالة السينمائية في لبنان. مع «النهر»، يُقفل سلهب ثلاثيّته حول المعاناة المعاصرة والدائمة للشعب اللبناني التي بدأها مع «الجبل» (2010) و«الوادي» (2014). تشكل الثلاثية بحثاً وجودياً وفرصة للاستماع إلى العقل البشري بأسلوب غير مستقر مع عدم استقرار عاطفي وشكوك وجودية، بإيقاع هادئ ولقطات طويلة. قصة «النهر» تبدأ مع رجل (علي سليمان) وامرأة (يمنى مروان) يجلسان على طاولة في مطعم. هما الوحيدان في ذلك المكان، والوحيدان اللذان نشاهدهما طوال الفيلم. عندما تأتي الضوضاء من السماء مشيرةً إلى قصف محتمل، يتحركان من مكانهما إلى الغابة مع عدم وجود وجهة محددة. يمكن القول إنهما ضاعا. هذه الغابة يزينها الخريف، طرقاتها مفخّخة بالألغام، مقسّمة بأسوار تحيطها، ويراقبها كلب، بينما الألوان الترابية تعزز الإحساس الأسطوري البعيد عن الواقع. يواصلون المشي، واستكشاف ما تقدمه المساحة الشاسعة. بينما نحن في الغابة والمناظر الطبيعية، تحمل الشخصيتان علامات ماض مؤلم متعلق بهما وبتاريخ البلاد الحديث. سيضيعان وسيجدان بعضهما مرة أخرى كلعبة مجازية للغميضة. هذه العلاقة عانت من الاغتراب، ورغم أنها انتهت، وبات الاتصال الجنسي فاتراً، ولكن الرغبة في استئناف العلاقة يمكن ألا يكون بعيد المنال. كلما يبتعدان، يصادفان مباني مهدمة، ونقوشاً على مداخل كهف وأسلحة محفوظة. نبقى معهما حتى نهاية الفيلم وخلالها نشاهدهما يكشفان عن أفكار حميمية يتذكران أحلامهما ويتحدثان عن لا شيء. يختفي كل شيء مع تقدم الفيلم، تهب الرياح، يرتفع الضباب تحلق الطائرات المعادية ونبقى في عزلة معهما مع فوضى عاطفتهما ونترك نحن لملء فجوات الحب والفيلم المعقد الرمزي والمراوغ. إن كان هناك شيء يجيده سلهب، فهو الشعور بالغموض. يصور الرجل المرأة بالهاتف، كما لو كان يريد أن يثبت لنفسه أنها موجودة، فكل شيء يدور في حلقة من الرموز والمراوغة، كأسطورة تسودها مشاعر غير معلنة. بالكاد هناك حوارات في «النهر»، وإن وجدت فهي لا تقدم الكثير، بل تسأل أو تلقي الشعر، ولا تسعى إلى الشرح أو التوجيه. كل شيء يخفي الحقائق وشيئاً ما، كما لو أن سلهب لم يكمل الحكاية وأخفاها عن نفسه أيضاً، وقدم فيلماً يبدو أطول بكثير من وقته الفعلي. مسار الفيلم والشخصيات غير مبرر، يقدمه سلهب بطريقة غامضة، ولو أن بعض الاستعارات واضحة جداً، ما يضعنا في حيرة. حيرة غير مقصودة من المخرج، بل إنّها محسوسة بسبب عدم تناغم الفيلم مع عناصره. «النهر» مجرد قصة رمزية فوق حكاية رمزية فوق قصة فارغة، لا تقدم شيئاً سوى ستار دخاني ونقوش رمزية تفتقد إلى الجوهر. وفوق كل هذا، يتم ترميز كل شيء كأن سلهب لا يثق بالفيلم ولا بنا لفهم الاستعارات. نحن في عالم من الخرافات والسحر وأحلام اليقظة، في سيناريو يشبه المتاهة المصطنعة. من الدقائق الأولى، يثبت الفيلم نغمته القاتلة، ويبدأ ببناء نهاية غير مرئية. على الرغم من أصواته (تصميم صوت: رنا عيد) وصورته (تصوير: باسم فياض) الجميلة، إلا أنّ وتيرته البطيئة يجعل العقل يتشتت. لا يوجد تطور في الفيلم، فقط استعارات فضفاضة في غير محلها. كل لقطة تفتح المجال لمسار جديد بلا هدف، ويضيع من خلالها المسار القديم، ما يعطي الفيلم مساراً بلاستيكياً لا يمكن الرؤية من خلالها بسبب كثرة انحناءاته. الشعور العام في الفيلم ما هو إلا حفنة من الأفكار غير المفهومة. وإن كان القصد منها أن تنقل المتفرج إلى جو من الخوف تختلط فيه الأشباح بالحاضر بالزمان، إلا أنّ هذا البناء لم يتحقق بسبب عدم وجود الأفكار من أساسها أو حتى أنقاضها. كل مشهد يفرغ المشهد الذي قبله من معناه، وكلما زادت الرمزية، أصبحت دليلاً على عدم وجود بنية للفيلم. الفيلم غارق في الصرامة التشكيلية، ما يمنعنا من التفكير بالفكرة إن وجدت. «النهر» منهك ومحبط، غير فعال في إظهار إرهاق الشخصيات، وبطؤه ينقل الأشياء إلى مجال تأملي ولا يصل إلى مكان ولا يقنع. لا يهتم سلهب بسردية أعماله أو حتى أفكاره ولا يهمه كثيراً ملء الفجوات، وهذه ليست مقاربة سيئة للتعامل مع السينما. ولكنها تتطلب الاستقرار الفعلي على موضوع وتطويره حتى يتجاوز حدوده. ما فعله في «النهر» هو اختصار البشر في هذه الشخصيتين واختصار الحروب الإسرائيلية والسياسة كلها في ذلك المكان، ويقول الفيلم بأن كل شيء موجود أمامنا وعلينا أخذ منه ما نشاء، ولكن هذا يوضح مدى ضآلة ما يريد قوله.
إن كان هناك شيء يجيده المخرج اللبناني، فهو الشعور بالغموض

يحاول غسان أن يكون سهلاً لدرجة أن عمله يبدو كسولاً جداً، مرتبكاً بشكل رهيب، بنوايا يمكن أن تكون جيدة ولكن بكتابه ركيكة. يقاوم صناعة فيلم واضح متعدد الطبقات ومقنع حتى ببطئه وأحلامه وتأملاته، ولكن «النهر» يفتقر إلى القلب، ومع تقدمه يصبح أكثر مللاً، ومع الوقت يصبح ثقيلاً. هالة الغموض الذي يكتنزه الفيلم، يشير إلى أنه ليس لديه معنى ليقوله، وكأن الشريط في مكان آخر، وما يبقى هو ساعة ونصف تقريباً تحتاج إلى ملء، مع أنّ غسان لديه «امرأة ومسدس» لصنع سينما كما قال غودار، ولكن في حالة غسان ليسا كافيين.
بينما يمر وقت الفيلم بصعوبة كبيرة، يبقى علي ويمنى ملتزمين كما المخرج بأدائهما الاستعاري على الرغم من عدم وجود الكيمياء الأساسية لدى كليهما. يمتلك كلاهما مساحة كبيرة لتجسيد شخصياتهما في الصمت، لكنهما في مكان آخر كلياً، مملين ثقيلين على نفسيهما وعلينا، يسيران بلا هدف مثل الفيلم. هناك شعور بعدم الاتزان طوال مدة الفيلم. شريط هشّ يسعى دائماً ليكون شيئاً ما، لكنه يبقى غير متماسك. ليس أكثر من مجرد لغز طويل مضجر.